الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ تعريف المكي والمدني ] :

اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة :

أشهرها : أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، أم بسفر من الأسفار .

أخرج عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام ، قال : ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فهو من المكي . وما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني .

وهذا أثر لطيف ، يؤخذ منه : أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحا .

الثاني : أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة . وعلى هذا تثبت الواسطة ، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني .

وقد أخرج الطبراني في الكبير من طريق الوليد بن مسلم ، عن عفير بن معدان ، عن ابن عامر ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام .

قال الوليد : يعني : بيت المقدس .

وقال الشيخ عماد الدين بن كثير : بل تفسيره بتبوك أحسن .

[ ص: 56 ] قلت : ويدخل في مكة ضواحيها ، كالمنزل بمنى وعرفات والحديبية ، وفي المدينة ضواحيها ، كالمنزل ببدر وأحد وسلع .

الثالث : أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة ، وحمل على هذا قول ابن مسعود الآتي .

قال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين ، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك قول ، لأنه لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة ، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول . انتهى .

وقد أخرج البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال : والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله - تعالى - إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت .

وقال أيوب : سأل رجل عكرمة عن آية في القرآن ، فقال : نزلت في سفح ذلك الجبل ، وأشار إلى سلع . أخرجه أبو نعيم في الحلية .

وقد ورد عن ابن عباس وغيره عد المكي والمدني . وأنا أسوق ما وقع لي من ذلك ، ثم أعقبه بتحرير ما اختلف فيه .

قال ابن سعد في الطبقات : أنبأنا الواقدي ، حدثني قدامة بن موسى ، عن أبي سلمة الحضرمي ، سمعت ابن عباس قال : سألت أبي بن كعب عما نزل من القرآن بالمدينة ؟ فقال : نزل بها سبع وعشرون سورة ، وسائرها بمكة .

وقال أبو جعفر النحاس في كتابه " الناسخ والمنسوخ " : حدثني يموت بن المزرع ، حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني ، أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى ، حدثنا يونس بن حبيب : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن ، المدني من المكي ، فقال : سألت ابن عباس ، عن ذلك فقال :

[ ص: 57 ] سورة الأنعام : نزلت بمكة جملة واحدة ، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة : قل تعالوا أتل [ 151 - 153 ] إلى تمام الآيات الثلاث ، وما تقدم من السور مدنيات .

ونزلت بمكة سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل . سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة ، في منصرفه من أحد . وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج ، سوى ثلاث آيات هذان خصمان [ 19 - 21 ] إلى تمام الآيات الثلاث ، فإنهن نزلن بالمدينة .

وسورة المؤمنون والفرقان وسورة الشعراء ، سوى خمس آيات من آخرها نزلن بالمدينة : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 224 ] إلى آخرها .

وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان ، سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام [ 27 - 29 ] إلى تمام الآيات .

وسورة السجدة ، سوى ثلاث آيات أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا [ 18 - 20 ] إلى تمام الآيات الثلاث .

وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص والزمر ، سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ياعبادي الذين أسرفوا [ 53 ] إلى تمام الثلاث آيات .

والحواميم السبع وق والذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف والتغابن إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة .

والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح والجن والمزمل إلا آيتين إن ربك يعلم أنك تقوم [ 20 ] .

والمدثر إلى آخر القرآن إلا إذا زلزلت و إذا جاء نصر الله و قل هو الله أحد و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس فإنهن مدنيات .

ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم .

هكذا أخرجه بطوله ، وإسناده جيد ، رجاله كلهم ثقات من علماء العربية المشهورين .

وقال البيهقي في " دلائل النبوة " : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو محمد بن زياد العدل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا أحمد بن نصر بن [ ص: 58 ] مالك الخزاعي ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، حدثني يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا : أنزل الله من القرآن بمكة : اقرأ باسم ربك ون ، والمزمل ، والمدثر و تبت يدا أبي لهب و إذا الشمس كورت و سبح اسم ربك الأعلى و والليل إذا يغشى والفجر ، والضحى ، و ألم نشرح والعصر ، والعاديات ، والكوثر ، و ألهاكم التكاثر و أرأيت و قل ياأيها الكافرون وأصحاب الفيل ، والفلق ، و قل أعوذ برب الناس و قل هو الله أحد والنجم ، وعبس و إنا أنزلناه ، والشمس وضحاها ، والسماء ذات البروج ، والتين والزيتون و لإيلاف قريش والقارعة ، و لا أقسم بيوم القيامة والهمزة ، والمرسلات ، وق ، و لا أقسم بهذا البلد ، والسماء والطارق ، و اقتربت الساعة وص والجن ويس والفرقان والملائكة وطه والواقعة وطسم وطس وطسم وبني إسرائيل والتاسعة وهود ويوسف وأصحاب الحجر والأنعام والصافات ولقمان وسبأ والزمر وحم المؤمن وحم الدخان وحم السجدة وحم عسق وحم الزخرف والجاثية والأحقاف والذاريات والغاشية وأصحاب الكهف والنحل ونوحا وإبراهيم والأنبياء والمؤمنون والم السجدة والطور وتبارك والحاقة وسأل و عم يتساءلون و والنازعات و إذا السماء انشقت و إذا السماء انفطرت والروم ، والعنكبوت .

وما نزل بالمدينة : ويل للمطففين والبقرة وآل عمران والأنفال والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء و إذا زلزلت والحديد ومحمد والرعد والرحمن و هل أتى على الإنسان والطلاق ، و لم يكن والحشر ، و إذا جاء نصر الله والنور والحج والمنافقون والمجادلة والحجرات ، و ياأيها النبي لم تحرم والصف والجمعة والتغابن والفتح ، وبراءة .

قال البيهقي : والتاسعة ، يريد بها سورة يونس . قال : وقد سقط من هذه الرواية : الفاتحة والأعراف وكهيعص ، فيما نزل بمكة .

قال : وقد أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرقي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد [ ص: 59 ] الرحمن القرشي ، حدثنا خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك فذكر معنى هذا الحديث ، وذكر السور التي سقطت من الرواية الأولى في ذكر ما نزل بمكة ، وقال : وللحديث شاهد في تفسير مقاتل وغيره مع المرسل الصحيح الذي تقدم .

وقال ابن الضريس في " فضائل القرآن " : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، أنبأنا عمر بن هارون ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كانت إذا أنزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما شاء ، وكان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم ن ، ثم ياأيها المزمل ، ثم ياأيها المدثر ، ثم تبت يدا أبي لهب ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك الأعلى ، ثم والليل إذا يغشى ، ثم والفجر ، ثم والضحى ، ثم ألم نشرح ، ثم والعصر ، ثم والعاديات ، ثم إنا أعطيناك ثم ألهاكم التكاثر ثم أرأيت الذي يكذب ثم قل ياأيها الكافرون ثم ألم تر كيف فعل ربك ثم قل أعوذ برب الفلق ثم قل أعوذ برب الناس ثم قل هو الله أحد ثم والنجم ثم عبس ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر ثم والشمس وضحاها ثم والسماء ذات البروج ثم والتين والزيتون ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم لا أقسم بيوم القيامة ثم ويل لكل همزة ثم والمرسلات ، ثم ق ، ثم لا أقسم بهذا البلد ثم والسماء والطارق ثم اقتربت الساعة ثم ص ، ثم الأعراف ، ثم قل أوحي ، ثم يس ، ثم الفرقان ، ثم الملائكة ، ثم كهيعص ، ثم طه ، ثم الواقعة ، ثم طسم الشعراء ، ثم طس ، ثم القصص ، ثم بني إسرائيل ، ثم يونس ، ثم هود ، ثم يوسف ، ثم الحجر ، ثم الأنعام ، ثم الصافات ، ثم لقمان ، ثم سبأ ، ثم الزمر ، ثم حم المؤمن ، ثم حم السجدة ، ثم حم عسق ، ثم حم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف ، ثم الذاريات ، ثم الغاشية ، ثم الكهف ، ثم النحل ثم إنا أرسلنا نوحا ، ثم سورة إبراهيم ، ثم سورة الأنبياء ، ثم المؤمنون ، ثم تنزيل السجدة ، ثم الطور ، ثم تبارك الملك ، ثم الحاقة ، ثم سأل ، ثم عم يتساءلون ثم النازعات ، ثم إذا السماء انفطرت ثم إذا السماء انشقت ثم الروم ، ثم العنكبوت ، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة .

[ ص: 60 ] وأما ما أنزل بالمدينة : سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم آل عمران ، ثم الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، ثم إذا زلزلت ، ثم الحديد ، ثم القتال ، ثم الرعد ، ثم الرحمن ، ثم الإنسان ، ثم الطلاق ، ثم لم يكن ، ثم الحشر ، ثم إذا جاء نصر الله ، ثم النور ، ثم الحج ، ثم المنافقون ، ثم المجادلة ، ثم الحجرات ، ثم التحريم ، ثم الجمعة ، ثم التغابن ، ثم الصف ، ثم الفتح ، ثم المائدة ، ثم براءة .

وقال أبو عبيد في " فضائل القرآن " : حدثنا عبد الله بن صالح ومعاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحج والنور والأحزاب ، و الذين كفروا ، والفتح والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والحواريين - يريد الصف - والتغابن ، و ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ، و ياأيها النبي لم تحرم والفجر والليل ، و إنا أنزلناه في ليلة القدر ، و لم يكن ، و إذا زلزلت ، و إذا جاء نصر الله ، وسائر ذلك بمكة .

وقال أبو بكر بن الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال نبأنا هشام ، عن قتادة ، قال : نزل في المدينة من القرآن : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والحديد والرحمن والمجادلة والحشر والممتحنة ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق ، و ياأيها النبي لم تحرم إلى رأس العشر ، و إذا زلزلت ، و إذا جاء نصر الله ، وسائر القرآن نزل بمكة .

قال أبو الحسن بن الحصار في كتابه " الناسخ والمنسوخ " : المدني باتفاق عشرون سورة ، والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة ، وما عدا ذلك مكي باتفاق . ثم نظم في ذلك أبياتا ، فقال :


يا سائلي عن كتاب الله مجتهدا وعن ترتيب ما يتلى من السور     وكيف جاء بها المختار من مضر
صلى الإله على المختار من مضر     وما تقدم منها قبل هجرته وما تأخر
في بدو وفي حضر ليعلم النسخ     والتخصيص مجتهد يؤيد الحكم بالتاريخ
والنظر تعارض النقل في أم الكتاب     وقد تؤولت الحجر تنبيها لمعتبر
أم القران وفي أم القرى نزلت     ما كان للخمس قبل الحمد من أثر
[ ص: 61 ] وبعد هجرة خير الناس قد نزلت عشرون     من سور القرآن في عشر
فأربع من طوال السبع أولها     وخامس الخمس في الأنفال ذي العبر
وتوبة الله إن عدت فسادسة     وسورة النور والأحزاب ذي الذكر
وسورة لنبي الله محكمة والفتح     والحجرات الغر في غرر ثم الحديد
ويتلوها مجادلة والحشر ثم     امتحان الله للبشر وسورة فضح الله النفاق
بها وسورة الجمع تذكار لمدكر     وللطلاق وللتحريم حكمهما والنصر
والفتح تنبيها على العمر     هذا الذي اتفقت فيه الرواة له وقد تعارضت
الأخبار في أخر فالرعد     مختلف فيها متى نزلت
وأكثر الناس قالوا الرعد كالقمر     ومثلها سورة الرحمن شاهدها مما تضمن
قول الجن في الخبر وسورة للحواريين     قد علمت ثم التغابن والتطفيف
ذو النذر وليلة القدر قد خصت     بملتنا ولم يكن بعدها الزلزال
فاعتبر وقل هو الله من أوصاف خالقنا     وعوذتان ترد البأس بالقدر
وذا الذي اختلفت فيه الرواة     له وربما استثنيت آي من السور
وما سوى ذاك مكي تنزله     فلا تكن من خلاف الناس في حصر
فليس كل خلاف جاء معتبرا     إلا خلاف له حظ من النظر



التالي السابق


الخدمات العلمية