الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            وقال الشيخ صفي الدين في رسالته : قال لي الشيخ أبو العباس الحرار : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة فوجدته يكتب مناشير للأولياء بالولاية ، وكتب لأخي محمد منهم منشورا قال : وكان أخو الشيخ كبيرا في الولاية كان على وجهه نور لا يخفى على أحد أنه ولي ، فسألنا الشيخ عن ذلك فقال : نفخ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه فأثرت النفخة هذا النور .

            قال الشيخ صفي الدين : ورأيت الشيخ الجليل الكبير أبا عبد الله القرطبي أجل أصحاب الشيخ القرشي ، وكان أكثر إقامته بالمدينة النبوية ، وكان له بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصلة وأجوبة ورد للسلام ، حمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسالة للملك الكامل ، وتوجه بها إلى مصر وأداها وعاد إلى المدينة ، قال : وممن رأيت بمصر الشيخ أبا العباس العسقلاني أخص أصحاب الشيخ القرشي ، زاهد مصر في وقته ، وكان أكثر أوقاته في آخر عمره بمكة يقال أنه [ ص: 314 ] دخل مرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الله بيدك يا أحمد .

            وحكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثا ، فقال له الولي : هذا الحديث باطل ، فقال الفقيه : ومن أين لك هذا ؟ فقال : هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقف على رأسك يقول : إني لم أقل هذا الحديث ، وكشف للفقيه فرآه ، وفي كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية لابن فارس قال : سمعت سيدي عليا - رضي الله عنه - يقول : كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب ، فأتيته يوما فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما وعليه قميص أبيض قطن ثم رأيت القميص علي ، فقال لي : اقرأ ، فقرأت عليه سورة والضحى وألم نشرح ثم غاب عني ، فلما أن بلغت إحدى وعشرين سنة أحرمت لصلاة الصبح بالقرافة ، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبالة وجهي فعانقني ، وقال لي : وأما بنعمة ربك فحدث ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت . انتهى .

            وفي بعض المجاميع : حج سيدي أحمد الرفاعي فلما وقف تجاه الحجرة الشريفة أنشد :


            في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني فهي نائبتي     وهذه نوبة الأشباح قد حضرت
            فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

            فخرجت اليد الشريفة من القبر الشريف فقبلها ، وفي معجم الشيخ برهان الدين البقاعي قال : حدثني الإمام أبو الفضل بن أبي الفضل النويري أن السيد نور الدين الإيجي والد الشريف عفيف الدين لما ورد إلى الروضة الشريفة وقال : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، سمع من كان بحضرته قائلا من القبر يقول : وعليك السلام يا ولدي ، وقال الحافظ محب الدين بن النجار في تاريخه : أخبرني أبو أحمد داود بن علي بن هبة الله بن المسلمة أنا أبو الفرح المبارك بن عبد الله بن محمد بن النقور قال : حكى شيخنا أبو نصر عبد الواحد بن عبد الملك بن محمد بن أبي سعد الصوفي الكرخي قال : حججت وزرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا أنا جالس عند الحجرة إذ دخل الشيخ أبو بكر الدياربكري ووقف بإزاء وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : السلام عليك يا رسول الله ، فسمعت صوتا من داخل الحجرة : وعليك السلام يا أبا بكر ، وسمعه من حضر .

            وفي كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للإمام شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان قال : سمعت يوسف بن علي الزناني يحكي عن امرأة هاشمية كانت [ ص: 315 ] مجاورة بالمدينة ، وكان بعض الخدام يؤذيها ، قالت : فاستغثت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعت قائلا من الروضة يقول : أما لك في أسوة ؟ فاصبري كما صبرت ، أو نحو هذا ، قالت : فزال عني ما كنت فيه ومات الخدام الثلاثة الذين كانوا يؤذونني ، وقال ابن السمعاني في الدلائل : أخبرنا أبو بكر هبة الله بن الفرج أخبرنا أبو القاسم يوسف بن محمد بن يوسف الخطيب أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عمر بن تميم المؤدب حدثنا علي بن إبراهيم بن علان أخبرنا علي بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن الهيثم الطائي حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرمى بنفسه على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله ، قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله فأوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر أنه قد غفر لك ، ثم رأيت في كتاب مزيل الشبهات في إثبات الكرامات للإمام عماد الدين إسماعيل بن هبة الله بن باطيس ما نصه : ومن الدليل على إثبات الكرامات آثار منقولة عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم منهم الإمام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لعائشة - رضي الله عنها - : إنما هما أخواك وأختاك ، قالت : هذان أخواي محمد وعبد الرحمن ، فمن أختاي وليس لي إلا أسماء ، فقال : ذو بطن ابنة خارجة قد ألقي في روعي أنها جارية ، فولدت أم كلثوم ، ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة سارية حيث نادى وهو في الخطبة : يا سارية الجبل الجبل ، فأسمع الله سارية كلامه وهو بنهاوند ، وقصته مع نيل مصر ومراسلته إياه وجريانه بعد انقطاعه ، ومنهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال عبد الله بن سلام : ثم أتيت عثمان لأسلم عليه - وهو محصور - فقال : مرحبا بأخي ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخوخة فقال : يا عثمان حصروك ؟ قلت : نعم ، قال : عطشوك ؟ قلت : نعم ، فأدلى لي دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت حتى إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي ، فقال : إن شئت نصرت عليهم ، وإن شئت أفطرت عندنا ، فاخترت أن أفطر عنده ، فقتل ذلك اليوم . انتهى .

            وهذه القصة مشهورة عن عثمان - مخرجة في كتب الحديث بالإسناد - أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسنده وغيره ، وقد فهم المنصف منها أنها رؤية يقظة ، وإن لم يصلح عدها في الكرامات ؛ لأن رؤية المنام يستوي فيها كل أحد ، وليست من الخوارق المعدودة في [ ص: 316 ] الكرامات ولا ينكرها من ينكر كرامات الأولياء ، ومما ذكره ابن باطيس في هذا الكتاب قال : ومنهم أبو الحسين محمد بن سمعون البغدادي الصوفي ، قال أبو طاهر محمد بن علي العلان : حضرت أبا الحسين بن سمعون يوما في مجلس الوعظ وهو جالس على كرسيه يتكلم فكان أبو الفتح القواس جالسا إلى جنب الكرسي فغشيه النعاس ونام ، فأمسك أبو الحسين ساعة عن الكلام حتى استيقظ أبو الفتح ورفع رأسه ، فقال له أبو الحسين : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومك ؟ قال : نعم ، قال أبو الحسين : لذلك أمسكت عن الكلام خوف أن تنزعج وينقطع ما كنت فيه ، فهذا يشعر بأن ابن سمعون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لما حضر ورآه أبو الفتح في نومه ، وقال أبو بكر بن أبيض في جزئه : سمعت أبا الحسن بنانا الحمال الزاهد يقول : حدثني بعض أصحابنا قال : كان بمكة رجل يعرف بابن ثابت قد خرج من مكة إلى المدينة ستين سنة ليس إلا للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرجع ، فلما كان في بعض السنين تخلف لشغل أو سبب فقال : بينا هو قاعد في الحجرة بين النائم واليقظان إذ رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : يا ابن ثابت لم تزرنا فزرناك .

            تنبيهات : الأول : أكثر ما تقع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر ، وقد تقدم الأمران في كلام القاضي أبي بكر بن العربي ، لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض ، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره ، وقد تقدم عن الشيخ عبد الله الدلاصي ، فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار بقوله أخذة إلى هذه الحالة .

            الثاني : هل الرؤية لذات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بجسمه وروحه أو لمثاله؟ الذين رأيتهم من أرباب الأحوال يقولون بالثاني وبه صرح الغزالي فقال : ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه ، قال : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية ، والنفس غير المثال المتخيل ، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق ، قال : ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة ، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره ، ويكون ذلك المثال حقا في كونه واسطة في التعريف فيقول الرائي : رأيت الله في المنام ، لا يعني أني رأيت ذات الله كما تقول في حق غيره . انتهى .

            [ ص: 317 ] وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال : رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه ، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي ، وقد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء ، وقال في دلائل النبوة : الأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء ؛ وقال في كتاب الاعتقاد : الأنبياء بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي : قال المتكلمون المحققون من أصحابنا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حي بعد وفاته وأنه يبشر بطاعات أمته ويحزن بمعاصي العصاة منهم ، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته ، وقال : إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئا ، وقد مات موسى في زمانه فأخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه في قبره مصليا ، وذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء الرابعة ورأى آدم وإبراهيم ، وإذا صح لنا هذا الأصل قلنا : نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد صار حيا بعد وفاته وهو على نبوته . انتهى ، وقال القرطبي في التذكرة في حديث الصعقة نقلا عن شيخه : الموت ليس بعدم محض ، وإنما هو انتقال من حال إلى حال ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون فرحين مستبشرين ، وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا في الشهداء فالأنبياء أحق بذلك وأولى ، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء ورأى موسى قائما يصلي في قبره ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودين أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامته . انتهى .

            وأخرج أبو يعلى في مسنده والبيهقي في كتاب حياة الأنبياء عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ) وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور ) وروى سفيان الثوري في الجامع قال : قال شيخ لنا عن سعيد بن المسيب قال : ما مكث نبي في قبره أكثر من أربعين ليلة حتى يرفع .

            قال البيهقي : فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله تعالى ، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال : ما [ ص: 318 ] مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما ، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز [ الكوفي ] شيخ صالح .

            وأخرج ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا ) وقال إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث ) زاد إمام الحرمين : وروي : أكثر من يومين ، وذكر أبو الحسن بن الزاغوني الحنبلي في بعض كتبه حديثا أن الله لا يترك نبيا في قبره أكثر من نصف يوم .

            وقال الإمام بدر الدين بن الصاحب في تذكرته - فصل في حياته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في البرزخ ، وقد دل على ذلك تصريح الشارع وإيماؤه ، ومن القرآن قوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فهذه الحالة وهي الحياة في البرزخ بعد الموت حاصلة لآحاد الأمة من الشهداء ، وحالهم أعلى وأفضل ممن تكن له هذه الرتبة لا سيما في البرزخ ، ولا تكون رتبة أحد من الأمة أعلى من رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل إنما حصل لهم هذه الرتبة بتزكيته وتبعيته ، وأيضا فإنما استحقوا هذه الرتبة بالشهادة ، والشهادة حاصلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أتم الوجوه ، وقال - عليه السلام - : ( مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره ) وهذا صريح في إثبات الحياة لموسى فإنه وصفه بالصلاة وأنه كان قائما ، ومثل هذا لا يوصف به الروح وإنما وصف به الجسد ، وفي تخصيصه بالقبر دليل على هذا ، فإنه لو كان من أوصاف الروح لم يحتج لتخصيصه بالقبر ، فإن أحدا لم يقل أن أرواح الأنبياء مسجونة في القبر مع الأجساد ، وأرواح الشهداء أو المؤمنين في الجنة .

            وفي حديث ابن عباس : " سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال : أي واد هذا ؟ فقالوا : وادي الأزرق ، فقال : كأني أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه ، له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي ثم سرنا حتى أتينا على ثنية قال : كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا " ، سئل هنا : كيف ذكر حجهم وتلبيتهم وهم أموات وهم في الأخرى وليست دار عمل ؟ وأجيب : بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا بما استطاعوا ، وأنهم وإن كانوا في [ ص: 319 ] الأخرى فإنهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها واعتقبتها الأخرى التي هي دار الجزاء انقطع العمل ، هذا لفظ القاضي عياض ، فإذا كان القاضي عياض يقول : إنهم يحجون بأجسادهم ويفارقون قبورهم ، فكيف يستنكر مفارقة النبي - صلى الله عليه وسلم لقبره ؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان حاجا وإذا كان مصليا فجسده في السماء وليس مدفونا في القبر . انتهى .

            فحصل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حي بجسده وروحه ، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء ، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم ، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها ، لا مانع من ذلك ، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية