الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6879 ) فصل : وإذا بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق ، أو إلى ملك غيره ، فتلف به شيء ، أو سقط على شيء فأتلفه ، ضمنه ; لأنه متعد بذلك ، فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره ، أو هواء مشترك ، ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في ملكه ، فأشبه ما لو نصب فيه منجلا يصيد به . وهذا مذهب الشافعي . ولا أعلم فيه خلافا . وإن بناه في ملكه مستويا ، أو مائلا إلى ملكه ، فسقط من غير استهدام ولا ميل ، فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به ; لأنه لم يتعد ببنائه ، ولا حصل منه تفريط بإبقائه .

                                                                                                                                            وإن مال وقوعه إلى ملكه ، ولم يتجاوزه ، فلا ضمان عليه ; لأنه بمنزلة بنائه مائلا في ملكه . وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق ، أو إلى ملك إنسان ، أو ملك مشترك بينه وبين غيره ، نظرنا ; فإن لم يمكنه نقضه ، فلا ضمان عليه ; لأنه لم يتعد ببنائه ، ولا فرط في ترك نقضه لعجزه عنه ، فأشبه ما لو سقط من غير ميل . وإن أمكنه نقضه فلم ينقضه ، لم يخل من حالين ; أحدهما ، أن يطالب بنقضه . والثاني : أن لا يطالب به ، فإن لم يطالب به ، لم يضمن ، في المنصوص عن أحمد ، وهو ظاهر كلام الشافعي ، ونحوه قال الحسن ، والنخعي ، والثوري ، وأصحاب الرأي ; لأنه بناه في ملكه ، والميل حادث بغير فعله ، فأشبه ما لو وقع قبل ميله . وذكر بعض أصحابنا فيه وجها آخر ، أن عليه الضمان . وهو قول ابن أبي ليلى ، وأبي ثور ، وإسحاق ; لأنه متعد بتركه مائلا ، فضمن ما تلف به ، كما لو بناه مائلا إلى ذلك ابتداء ، ولأنه لو طولب بنقضه فلم يفعل ، ضمن ما تلف به ولو لم يكن ذلك موجبا للضمان ، لم يضمن بالمطالبة ، كما لو لم يكن مائلا ، أو كان مائلا إلى ملكه .

                                                                                                                                            وأما إن طولب بنقضه فلم يفعل ، فقد توقف أحمد عن الجواب فيها . وقال أصحابنا : يضمن . وقد أومأ إليه أحمد وهو مذهب مالك ، ونحوه قال الحسن ، والنخعي ، والثوري وقال أبو حنيفة : الاستحسان أن يضمن ; لأن حق الجواز للمسلمين ، وميل الحائط يمنعهم ذلك ، فلهم المطالبة بإزالته ، فإذا لم يزله ضمن ، كما لو وضع عدلا على الحائط نفسه ، فوقع في ملك غيره ، فطولب برفعه فلم يفعل حتى عثر به إنسان . وفيه وجه آخر ، لا ضمان عليه . قال أبو حنيفة : وهو القياس ; لأنه بناه في ملكه ، ولم يسقط بفعله ، فأشبه ما لو لم يطالبه بنقضه ، أو سقط قبل ميله ، أو لم يمكنه نقضه ، ولأنه لو وجب الضمان ، لم تشترط المطالبة ، كما لو بناه مائلا إلى غير ملكه .

                                                                                                                                            فإن قلنا : عليه الضمان إذا طولب ; فإن المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب الضمان إذا كان ميله إلى الطريق ، لأن لكل واحد منهم حق المرور ، فكانت له المطالبة ، كما لو مال الحائط إلى ملك جماعة ، كان لكل واحد منهم المطالبة ، وإذا طالب واحد ، فاستأجله صاحب الحائط ، أو أجله له الإمام ، لم يسقط عنه الضمان ; لأن الحق لجميع المسلمين ، فلا يملك واحد منهم إسقاطه . وإن كانت المطالبة لمستأجر الدار ، أو مرتهنها ، أو مستعيرها ، أو مستودعها ، فلا ضمان عليهم ; لأنهم لا يملكون النقض ، وليس الحائط ملكا لهم . وإن طولب المالك في هذه الحال ، فلم يمكنه استرجاع الدار ، ونقض الحائط [ ص: 335 ] فلا ضمان عليه ; لعدم تفريطه ، وإن أمكنه استرجاعها ، كالمعير ، والمودع ، والراهن إذا أمكنه فكاك الرهن ، فلم يفعل ضمن ; لأنه أمكنه النقض .

                                                                                                                                            وإن كان المالك محجورا عليه ، لسفه أو صغر أو جنون ، فطولب هو لم يلزمه الضمان ; لأنه ليس أهلا للمطالبة ، وإن طولب وليه أو وصيه ، فلم ينقضه ، فالضمان على المالك ; لأن سبب الضمان ماله ، فكان الضمان عليه دون المتصرف ، كالوكيل مع الموكل . وإن كان الملك مشتركا بين جماعة ، فطولب أحدهم بنقضه ، احتمل وجهين ; أحدهما ، لا يلزمه شيء ; لأنه لا يمكنه نقضه بدون إذنهم ، فهو كالعاجز عن نقضه . والثاني : يلزمه بحصته ; لأنه يتمكن من النقض بمطالبة شركائه ، وإلزامهم النقض ، فصار بذلك مفرطا . وأما إن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين ، إما واحد وإما جماعة ، فالحكم على ما ذكرنا ، إلا أن المطالبة للمالك ، أو ساكن الملك الذي مال إليه دون غيره .

                                                                                                                                            وإن كان لجماعة ، فأيهم طالب ، وجب النقض بمطالبته ، كما لو طالب واحد بنقض المائل إلى الطريق ، إلا أنه متى طالب ، ثم أجله صاحب الملك ، أو أبرأه منه ، أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها ، جاز ; لأن الحق له ، وهو يملك إسقاطه . وإن مال إلى درب غير نافذ ، فالحق لأهل الدرب ، والمطالبة لهم ; لأن الملك لهم ، ويلزم النقض بمطالبة أحدهم ، ولا يبرأ بإبرائه وتأجيله ، إلا أن يرضى بذلك جميعهم ; لأن الحق لجميعهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية