الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
مخرج زوال السبب ، وقد كان الأولى تقديمه على هذا المخرج لقوته وصحته ، فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودا وعدما ، ولهذا nindex.php?page=treesubj&link=21764_20607إذا علق الشارع حكما بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار ، فإذا زال عنها وصارت خلا زال الحكم ، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية ، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه ، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها ، والشريعة مبنية على هذه القاعدة ، فهكذا الحالف إذا nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله ; لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف ، فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا nindex.php?page=treesubj&link=16504دعي إلى شراب مسكر ليشربه فحلف أن لا يشربه ، فانقلب خلا فشربه لم يحنث ، فإن منع نفسه منه نظير منع [ ص: 81 ] الشارع ، فإذا زال منع الشارع بانقلابه خلا وجب أن يزول منع نفسه بذلك ، والتفريق بين الأمرين تحكم محض لا وجه له ; فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه ؟
وهل يقتضي محض الفقه إلا زوال حكم اليمين ؟ يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه أنه لم يمنعها من شرب غير المسكر ، ولم يخطر بباله ، فإلزامه ببقاء " حكم اليمين وقد زال سببها إلزام بما لم يلتزمه هو ، ولا ألزمه به الشارع ، وكذلك لو nindex.php?page=treesubj&link=16504حلف على رجل أن لا يقبل له قولا ولا شهادة لما يعلم من فسقه ، ثم تاب وصار من خيار الناس ; فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع ، وكذلك إذا nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف أن لا يأكل هذا الطعام أو لا يلبس هذا الثوب أو لا يكلم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحل له ذلك ، فملك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث ; لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع ، ومنع الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتب عليها المنع ; فكذلك منع الحالف ، وكذلك إذا حلف لا دخلت هذه الدار .
وكان سبب يمينه أنها تعمل فيها المعاصي وتشرب الخمر ; فزال ذلك وعادت مجمعا للصالحين وقراءة القرآن والحديث ، أو قال : " لا أدخل هذا المكان " لأجل ما رأى فيه من المنكر ، فصار بيتا من بيوت الله تقام فيه الصلوات لم يحنث بدخوله ، وكذلك إذا nindex.php?page=treesubj&link=16504حلف لا يأكل لفلان طعاما ، وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا ، ويأكل أموال الناس بالباطل ; فتاب وخرج من المظالم وصار طعامه من كسب يده أو تجارة مباحة لم يحنث بأكل طعامه ، ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع ، وكذلك لو nindex.php?page=treesubj&link=16504حلف لا بايعت فلانا ، وسبب يمينه كونه مفلسا أو سفيها ; فزال الإفلاس والسفه ; فبايعه لم يحنث ، وأضعاف أضعاف هذه المسائل ، كما إذا nindex.php?page=treesubj&link=16528اتهم بصحبة مريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث ، وكذلك لو nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف المريض لا يأكل لحما أو طعاما وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعا له لم يحنث بأكله .
وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس ، فمنها : لو nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف لوال أن لا أفارق البلد إلا بإذنك فعزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث ، ومنها : لو nindex.php?page=treesubj&link=16504حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني ، أو على عبده لا يخرج إلا بإذنه ، ثم طلق الزوجة ، وأعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث ، ذكره أصحاب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد .
قال صاحب المغني : لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها ، وهو يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما ; فكأنه قال : ما دمتما في ملكي ، ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ، وكذلك لو nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف لقاض أن لا أرى منكرا إلا [ ص: 82 ] رفعته إليك فعزل لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل ، وكذلك إذا nindex.php?page=treesubj&link=16528حلف لامرأته ألا أبيت خارج بيتك أو خارج هذه الدار فماتت أو طلقها لم يحنث إذا بات خارجها ، وكذلك إذا nindex.php?page=treesubj&link=16504حلف على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفساق ; لكونه أمرد ، فالتحى وصار شيخا لم يحنث بمبيته خارج الدار ، وهذا كله مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد ; فإنهما يعتبران النية في الأيمان وبساط اليمين وسببها وما هيجها ; فيحملان اليمين على ذلك .
[ قف على اعتبارهم nindex.php?page=treesubj&link=16528بساط اليمين ]
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأيمان من كتابه الكافي في مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : والأصل في هذا الباب مراعاة ما نواه الحالف ; فإن لم تكن له نية نظر إلى بساط قصته ، وما أثاره على الحلف ، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته .
وقال صاحب الجواهر : nindex.php?page=treesubj&link=16526_16525_16528_16517_16519_16518_16515_16514_16513المقتضيات للبر والحنث أمور ; الأول : النية إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها ، سواء كانت مطابقة له أو زائدة فيه أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه ، الثاني : السبب المثير لليمين يتعرف منه ، ويعبر عنه بالبساط أيضا ، وذلك أن القاصد لليمين لا بد أن تكون له نية ، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها ; فيكون المحرك على اليمين - ، وهو البساط - دليلا عليها ، لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورا لا إشكال فيه ، وقد يخفى في بعض الحالات ، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة .
وكذلك أصحاب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد صرحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها ، فإن عدمت رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه ; لأنه دليل على النية . حتى صرح أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فيمن nindex.php?page=treesubj&link=16528دفن مالا ونسي مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته أنها هي التي أخذته ثم وجده لم يحنث ، قالوا : لأن قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذته ; فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط ، وهذا هو محض الفقه .
ونظير هذا ما لو nindex.php?page=treesubj&link=16528دعي إلى طعام فظنه حراما فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال لا شبهة فيه فإنه لا يحنث بأكله ; لأن يمينه إنما تعلقت به إن كان حراما وذلك قصده .
ومثله لو nindex.php?page=treesubj&link=16504مر به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر ، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالرد عليه .
[ ص: 83 ] ومثله لو nindex.php?page=treesubj&link=16528قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفا أو جموحا أو متعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت له بخلاف ذلكلم يحنث بركوبها .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14209أبو القاسم الخرقي في مختصره : ويرجع في الأيمان إلى النية ; فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها .
وقال أصحاب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : إذا nindex.php?page=treesubj&link=16528دعي إلى غداء فحلف أن لا يتغدى أو قيل له اقعد فحلف أن لا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت ; لأن عاقلا لا يقصد أن لا يتغدى أبدا ولا يقعد أبدا .
ثم قال صاحب المغني : إن كان له نية فيمينه على ما نوى ، وإن لم تكن له نية ; فكلام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد يقتضي روايتين ; إحداهما : أن اليمين محمولة على العموم ; لأن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد سئل عن nindex.php?page=treesubj&link=16528رجل حلف أن لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم ، قال أحمد : النذر يوفى به ، يعني لا يدخله ، ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب ، كذلك يمين الحالف .
ونازعه في ذلك شيخنا ، فقال : إنما منعه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد من دخول البلد بعد زوال الظلم ; لأنه نذر لله ألا يدخلها ، وأكد نذره باليمين ، والنذر قربة ، فقد نذر التقرب إلى الله بهجران ذلك البلد ; فلزمه الوفاء بما نذره .
هذا هو الذي فهمه الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، وأجاب به السائل حيث قال : النذر يوفى به ; ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم فوق ثلاثة أيام ; لأنهم تركوا ديارهم لله ، فلم يكن لهم العود فيها ، وإن زال السبب الذي تركوها لأجله ، وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر ; فهذا سر جوابه ، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله nindex.php?page=treesubj&link=16512_16513_16528اعتبار النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالفين على ذلك ، وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر فلينظر فيها .
وأما مذهب أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة فقال في كتاب الذخائر في كتاب الأيمان :
الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة ، إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق ، وكذلك لو أراد رجل أن يضربه فحلف آخر أن لا يضربه ، فهذا على تلك الضربة ، حي لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث ، ويسمى هذا يمين الفور ، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصودة بالمنع منها عرفا وعادة ; فيتعين ذلك بالعرف والعادة ، وإذا nindex.php?page=treesubj&link=16499دخل الرجل على الرجل فقال : تعالى تغد معي ، فقال : والله لا أتغدى ، فذهب إلى بيته وتغدى مع أهله لا يحنث ، وكذلك إذا قال الرجل لغيره : كل مع فلان ، فقال : والله لا آكل ، ثم ذكر تقرير ذلك [ ص: 84 ] بأنه جواب لقول الآمر له ، والجواب كالمعاد في السؤال ; فإنه يتضمن ما فيه ، قال : وليس كابتداء اليمين ; لأن كلامه لم يخرج جوابا بالتقييد ، بل خرج ابتداء ، هو مطلق عن القيد فينصرف إلى كل غداء ، nindex.php?page=treesubj&link=16489قال : وإذا قال لغيره : كلم لي زيدا اليوم في كذا ، فقال : والله لا أكلمه ، فهذا يختص باليوم ; لأنه خرج جوابا عن الكلام السابق ، وعلى هذا إذا nindex.php?page=treesubj&link=11763قال : ائتني اليوم ، فقال : امرأته طالق إن أتاك ، وقد صرح أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ ; فإذا تعين باللفظ ، ولم يكن اللفظ محتملا لما نوى لم تؤثر النية فيه ; فإنه حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية ، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم ; فإذا احتملها اللفظ فعينت بعض محتملاته أثرت حينئذ ، قالوا : ولهذا لو قال : " إن لبست ثوبا أو أكلت طعاما أو شربت شرابا أو كلمت امرأة فامرأته طالق " ونوى ثوبا أو طعاما أو شرابا أو امرأة معينا دين فيما بينه وبين الله ، وقبلت نيته بغير خلاف ، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل ; فكذلك عند nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف في رواية عنه والخصاف ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك .
والمقصود أن النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما ، وإطلاقا وتقييدا ، والسبب يقوم مقامها عند عدمها ، ويدل عليها ، فيؤثر ما يؤثره ، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به ، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم ، فكيف إذا علم قطعا أنهم أرادوا خلافه ؟ والله أعلم .