الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الأدلة على وجوب اتباع الصحابة ]

فأما الأول فمن وجوه ، أحدها : ما احتج به مالك ، وهو قوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم ، فإذا قالوا قولا فاتبعهم متبع عليه قبل [ ص: 95 ] أن يعرف صحته فهو متبع لهم ، فيجب أن يكون محمودا على ذلك ، وأن يستحق الرضوان ، ولو كان اتباعهم تقليدا محضا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميا ، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ .

فإن قيل : اتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل ، وهو سلوك سبيل الاجتهاد ; لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد ، والدليل عليه قوله { بإحسان } ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان ، وأيضا فيجوز أن يراد به اتباعهم في أصول الدين ، وقوله { بإحسان } أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم ، ويكون المقصود أن السابقين قد وجب لهم الرضوان ، وإن أساءوا ; لقوله صلى الله عليه وسلم { وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } ، وأيضا فالثناء على من اتبعهم كلهم ، وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه ، وأيضا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه ، وإنما يدل على جواز تقليدهم ، وذلك دليل جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء ، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى .

أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه . فالجواب من وجوه : أحدها : أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد لوجوه ، أحدها : أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله { فاتبعوني يحببكم الله } { واتبعوه لعلكم تهتدون } { ويتبع غير سبيل المؤمنين } ونحوه لا يتوقف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل ; الثاني : أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق ; لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يتبع فيه كل أحد ، فمن قال قولا بدليل صحيح وجب موافقته فيه ; الثالث : أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا تجوز ، فإن لم تجز فهو المطلوب ، وإن جازت مخالفتهم فقد خولفوا في خصوص الحكم واتبعوا في أحسن الاستدلال ، فليس جعل من فعل ذلك متبعا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفا لمخالفته في عين الحكم ; الرابع : أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعا لهم أصلا ، بدليل أن من خالف مجتهدا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاد لا يصح أن يقال " اتبعه " ، وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال اتبعه في الاستدلال أو الاجتهاد . الخامس : أن الاتباع افتعال من اتبع ، وكون الإنسان تابعا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه ، وكل واحد [ ص: 96 ] من المجتهدين المستدلين ليس تبعا للآخر ولا مفتقرا إليه بمجرد ذلك حتى يستشعر موافقته والانقياد له ، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلا في اجتهاده أو فتواه اتفاقا إنه متبع له . السادس : أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم ، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين ، وبتقدير ألا يكون قولهم موجبا للموافقة ولا مانعا من المخالفة - بل إنما يتبع القياس مثلا - لا يكون لهم هذا المنصب ، ولا يستحقون هذا المدح والثناء ; السابع : أن من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة ، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد ، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به ; لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته .

وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم - وكلاهما مؤثر - كان التفريق رعاية للفارق أولى من الجمع رعاية للجامع ، وأما قوله : { بإحسان } فليس المراد به أن يجتهد ، وافق أو خالف ; لأنه إذا خالف لم يتبعهم فضلا عن أن يكون بإحسان ، ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم ، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول ، فلا بد مع ذلك أن يكون المتبع محسنا بأداء الفرائض واجتناب المحارم ; لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولا ، وأيضا فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم ، ولا يقدح فيهم ، اشترط الله ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم .

وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } وأما تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح ; لأن الاتباع عام ، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ، ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها .

وأيضا فإنه إذا قيل " فلان يتبع فلانا ، واتبع فلانا ، وأنا متبع فلانا " ، ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية فإنه يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتى فيها الاتباع ; لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف ; ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم ، فيكون الاتباع سببا له ; لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب ، وإذا كان اتباعهم سببا للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ، ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال ، ولأن الاتباع يؤذن بكون الإنسان تبعا لغيره وفرعا عليه ، وأصول الدين ليست كذلك ولأن الآية تضمنت الثناء عليهم وجعلهم أئمة لمن بعدهم ، فلو لم يتناول إلا اتباعهم في أصول الدين دون الشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك لأن ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية