الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

في كيفية الأخذ بإفراد القراءات وجمعها .

الذي كان عليه السلف أخذ كل ختمة برواية ، لا يجمعون رواية إلى غيرها إلا أثناء المائة الخامسة ، فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة ، واستقر عليه العمل ، ولم يكونوا يسمحون به إلا لمن أفرد القراءات ، وأتقن طرقها ، وقرأ لكل قارئ بختمة على حدة ، بل إذا كان للشيخ روايات قرءوا لكل راو بختمة ، ثم يجمعون له ، وهكذا .

وتساهل قوم ، فسمحوا أن يقرأ لكل قارئ من السبعة بختمة ، سوى نافع وحمزة ، فإنهم كانوا يأخذون بختمة لقالون ، ثم ختمة لورش ، ثم ختمة لخلف ، ثم ختمة لخلاد ، ولا يسمح أحد بالجمع إلا بعد ذلك ، نعم إذا رأوا شخصا أفرد وجمع على شيخ معتبر ، وأجيز وتأهل ، وأراد أن يجمع القراءات في ختمة ، لا يكلفونه الإفراد ، لعلمهم بوصوله إلى حد المعرفة والإتقان .

ثم لهم في الجمع مذهبان :

أحدهما : الجمع بالحرف ، بأن يشرع في القراءة ، فإذا مر بكلمة فيها خلف أعادها بمفردها ، حتى يستوفي ما فيها ، ثم يقف عليها إن صلحت للوقف ، وإلا وصلها بآخر وجه حتى ينتهي إلى الوقف . وإن كان الخلف يتعلق بكلمتين كالمد المنفصل وقف على الثانية ، واستوعب الخلاف ، وانتقل إلى ما بعدها . وهذا مذهب المصريين ، وهو أوثق في الاستيفاء وأخف على الآخذ ، لكنه يخرج عن رونق القراءة وحسن التلاوة .

الثاني : الجمع بالوقف ، بأن يشرع بقراءة من قدمه حتى ينتهي إلى وقف ، ثم يعود إلى القارئ الذي بعده إلى ذلك الوقف ، ثم يعود ، وهكذا حتى يفرغ ، وهذا مذهب الشاميين ، وهو أشد استحضارا ، وأشد استظهارا ، وأطول زمنا ، وأجود مكانا .

وكان بعضهم يجمع بالآية على هذا الرسم .

وذكر أبو الحسن القيجاطي في قصيدته وشرحها : لجامع القراءات شروطا سبعة ، حاصلها خمسة :

[ ص: 329 ] أحدها : حسن الوقف .

ثانيها : حسن الابتداء .

ثالثها : حسن الأداء .

رابعها : عدم التركيب فإذا قرأ لقارئ لا ينتقل إلى قراءة غيره حتى يتم ما فيها ، فإن فعل لم يدعه الشيخ بل يشير إليه بيده ; فإن لم يتفطن ، قال لم تصل ، فإن لم يتفطن مكث حتى يتذكر ، فإن عجز ذكر له .

الخامس : رعاية الترتيب في القراءة ، والابتداء بما بدأ به المؤلفون في كتبهم فيبدأ بنافع قبل ابن كثير ، وبقالون قبل ورش .

قال ابن الجزري : والصواب أن هذا ليس بشرط ، بل مستحب بل الذين أدركناهم من الأستاذين لا يعدون الماهر إلا من يلتزم تقديم شخص بعينه .

وبعضهم كان يراعي في الجمع التناسب : فيبدأ بالقصر ، ثم بالرتبة التي فوقه ، وهكذا إلى آخر مراتب المد . ويبدأ بالمشبع ثم بما دونه إلى القصر . وإنما يسلك ذلك مع شيخ بارع عظيم الاستحضار ، أما غيره فيسلك معه ترتيب واحد .

قال : وعلى الجامع أن ينظر ما في الأحرف من الخلاف أصولا وفرشا ، فما أمكن فيه التداخل اكتفي منه بوجه ، وما لم يمكن فيه نظر : فإن أمكن عطفه على ما قبله بكلمة أو كلمتين أو بأكثر من غير تخليط ولا تركيب اعتمده ، وإن لم يحسن عطفه رجع إلى موضع ابتدائه حتى يستوعب الأوجه كلها ، من غير إهمال ولا تركيب ولا إعادة ما دخل : فإن الأول ممنوع ، والثاني مكروه ، والثالث معيب .

وأما القراءة بالتلفيق ، وخلط قراءة بأخرى : فسيأتي بسطه في النوع الذي يلي هذا .

وأما القراءات والروايات والطرق والأوجه : فليس للقارئ أن يدع منها شيئا أو يخل به ; فإنه خلل في إكمال الرواية إلا الأوجه ، فإنها على سبيل التخيير فأي وجه أتى به أجزأه في تلك الرواية .

وأما : قدر ما يقرأ حال الأخذ : فقد كان الصدر الأول لا يزيدون على عشر آيات لكائن من كان ، وأما من بعدهم فرأوه بحسب قوة الآخذ .

قال ابن الجزري : الذي استقر عليه العمل الأخذ في الإفراد بجزء من أجزاء مائة وعشرين ، وفي الجمع بجزء من أجزاء مائتين وأربعين ، ولم يحد له آخرون حدا ، وهو اختيار السخاوي .

[ ص: 330 ] وقد لخصت هذا النوع ، ورتبت فيه متفرقات كلام أئمة القراءات ، وهو نوع مهم يحتاج إليه القارئ ، كاحتياج المحدث إلى مثله من علم الحديث .

فائدة : ادعى ابن خير الإجماع على أنه ليس لأحد أن ينقل حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن له به رواية ، ولو بالإجازة فهل يكون حكم القرآن كذلك ، فليس لأحد أن ينقل آية أو يقرأها ما لم يقرأها على شيخ ؟ لم أر في ذلك نقلا ، ولذلك وجه من حيث إن الاحتياط في أداء ألفاظ القرآن أشد منه في ألفاظ الحديث . ولعدم اشتراطه فيه وجه ; من حيث إن اشتراط ذلك في الحديث وإنما هو لخوف أن يدخل في الحديث ما ليس منه أو يتقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله ، والقرآن محفوظ متلقى متداول ميسر ، وهذا هو الظاهر .

فائدة ثانية : الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة ، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد ، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح ، وكذلك في كل علم ، وفي الإقراء والإفتاء ، خلافا لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطا . وإنما اصطلح الناس على الإجازة ; لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبا من يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم ; لقصور مقامهم عن ذلك ، والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط ، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية .

فائدة ثالثة : ما اعتاده كثير من مشايخ القراء - من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مال في مقابلها - لا يجوز إجماعا ، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة ، أو عدمها حرم عليه ، وليست الإجازة مما يقابل بالمال ، فلا يجوز أخذه عنها ، ولا الأجرة عليها .

وفي فتاوى الصدر موهوب الجزري من أصحابنا : أنه سئل عن شيخ طلب من الطالب شيئا على إجازته ، فهل للطالب رفعه إلى الحاكم وإجباره على الإجازة ؟ .

فأجاب : لا تجب الإجازة على الشيخ ، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها .

وسئل أيضا : عن رجل أجازه الشيخ بالإقراء ، ثم بان أنه لا دين له ، وخاف الشيخ من تفريطه ، فهل له النزول عن الإجازة ؟ فأجاب : لا تبطل الإجازة بكونه غير دين .

التالي السابق


الخدمات العلمية