الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين . فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم ، فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه ، وجعله محرما على عباده . فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن بقي الآخر تحت الخطر : لم يجز . ولذلك حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الثمر قبل بدو صلاحه . فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة . فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء . فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ، ودخله الخطر ومعنى القمار ، كما ذكره رافع في قوله : " فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه " ، فيفوز أحدهما ويخيب الآخر ، وهذا معنى القمار ، وأخبر رافع : " أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا " وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من [ ص: 241 ] المخاطرة ومعنى القمار ، وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود ، لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة . وسأشير - إن شاء الله - إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، ورافع أعلم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أي شيء وقع ، وهذا - والله أعلم - هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر ، فإنه قال لما حدثه رافع : " قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على الأربعاء وبشيء من التبن " ، فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين . وكان ابن عمر يفعله ; لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغه النهي .

              يدل على ذلك : أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به ، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء ، وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع . فروى حرب الكرماني قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت كليب بن وائل قال : " أتيت ابن عمر فقلت : أتاني رجل له أرض وماء ، وليس له بذر ولا بقر ، فأخذتها بالنصف ، فبذرت فيها بذري ، وعملت فيها ببقري فناصفته ؟ قال : حسن " وقال : حدثنا ابن أخي حزم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عبيد ، سمعت سالم بن عبد الله - وأتاه رجل - فقال : " الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول : أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك ، فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا ؟ قال : لا بأس به ، ونحن نصنعه " . وهكذا أخبر أقارب رافع ، ففي البخاري عن رافع قال : " حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض ، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك . فقيل لرافع : فكيف بالدينار [ ص: 242 ] والدرهم ؟ فقال : ليس بأس بالدينار والدرهم " . وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه ، لما فيه من المخاطرة . وعن أسيد بن ظهير قال : " كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف . ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع . وكان العيش إذ ذاك شديدا ، وكان يعمل فيها بالحديد ما شاء الله ، ويصيب منها منفعة ، فأتانا رافع بن خديج فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن الحقل ، ويقول : من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع " رواه أحمد وابن ماجه . وروى أبو داود قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، زاد أحمد : " وينهاكم عن المزابنة ، والمزابنة : أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول : أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر . والقصارة ما سقط من السنبل " . وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر ، فأخبر سعد : " أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع ، وما سعد بالماء مما حول البئر . فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختصموا في ذلك ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكروا ذلك ، وقال اكروا بالذهب والفضة " ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي . فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة ، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين . وعن جابر - رضي الله عنه - قال : " كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصيب من القصري ، ومن كذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليمنحها أخاه أو فليدعها " ، رواه مسلم .

              [ ص: 243 ] فهؤلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها ، والعلة التي نهى من أجلها . وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث : " أنه نهى عن كراء المزارع " مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم . وإذا قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تكروا المزارع " فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه ، وهم أعلم بمقصوده . وكما جاء مفسرا عنه " أنه رخص في غير ذلك الكراء " [ومما ] يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها . واللفظ - وإن كان في نفسه مطلقا - فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال ، أو عقب حكاية حال ونحو ذلك : فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب . كما لو قال المريض للطبيب : إن به حرارة ، فقال له : لا تأكل الدسم ; فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال .

              وذلك : أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود ، أو حال يقتضيه : انصرف إليه . وإن كان نكرة ، كالمتبايعين إذا قال أحدهما : بعتك بعشرة دراهم ، فإنها مطلقة في اللفظ ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم . فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ " الكراء " إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ، ثم خوطبوا به : لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه . وكان ذلك من باب التخصيص العرفي ، كلفظ " الدابة " إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس ، أو ذوات الحافر ، فقال : لا تأتني بدابة : لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال . وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال : دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قلت : نؤاجرها بما على الربيع ، وعلى الأوسق [ ص: 244 ] من التمر والشعير قال : لا تفعلوا ، ازرعوها ، أو أزرعوها أو أمسكوها " .

              فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه ، وأما المزارعة المحضة : فلم يتناولها النهي ، ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء ; لأنها - والله أعلم - عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد . فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة ، إما عين ، وإما دين . فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز ، وكذلك إن كان عينا من غير الزرع ، وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز .

              فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق ، بل هو شركة محضة ، إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض ، بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر . وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا ، فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه . فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا ، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز ، وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ، ولم يتعرض للشركة ; لأنها جنس آخر .

              بقي أن يقال : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها " أمر - إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة - أن يمسكها . وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم .

              فيقال : الأمر بهذا أمر ندب واستحباب ، لا أمر إيجاب ، أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد . وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية ، قال في الآنية [ ص: 245 ] التي كانوا يطبخون فيها : " أهريقوا ما فيها واكسروها " ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء " ; وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح . كما قيل : " لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال " ، كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج ، لا بتركها جملة .

              فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة . ولهذا يوجد في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن خشي منه النفرة عن الطاعة : الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ، ولمن وثق بإيمانه وصبره : النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل . ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره - من فعل المستحبات البدنية والمالية ، كالخروج عن جميع ماله - مثل أبي بكر الصديق - ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك ، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب ، فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته . ثم قال : " يذهب أحدكم فيخرج ماله ، ثم يجلس كلا على الناس " .

              يدل على ذلك : ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن المزارعة ، وأمر بالمؤاجرة ، وقال : لا بأس بها " وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص : " أنه نهاهم [ ص: 246 ] أن يكروا بزرع موضع معين ، وقال : اكروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة . فإن رافع بن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه : " لا بأس بكرائها بالذهب والفضة " وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس . ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال : قلت لطاوس : " لو تركت المخابرة ؟ فإنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ، قال : أي عمرو ، إني أعطيهم وأعينهم ، وإن أعلمهم أخبرني - يعني ابن عباس - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه ولكن قال : أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما " . وعن ابن عباس أيضا : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم المزارعة ، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض " رواه مسلم مجملا والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

              فقد أخبر طاوس عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع ، قال : " وأنا أعينهم وأعطيهم " . وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ، ومنه مستحب كالعارية والقرض ، ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به ، فقال : " لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما " . وقال : " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها " ، فكان الأخ هو الممنوح . ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يمنحهم ، لا [ ص: 247 ] سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غنى ، فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة ، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر ، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم ، حيث عاملوا عليها المهاجرين . وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة ، كما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت " ليطعموا الجياع ; لأن إطعامهم واجب ، فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ، ولم يأمرهم بالتبرع عينا ، كما نهاهم عن الادخار ، فإن من نهي عن الانتفاع بماله جاد ببذله . إذ لا يترك بطالا ، وقد ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الأئمة ، عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي .

              وأما ما رواه جابر من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة ، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها . واللام لتعريف العهد . ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك .

              يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال : " كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول ، فزعم رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ، فتركناه من أجله " فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر ، وقد تقدم معنى حديث رافع . قال أبو عبيد : الخبر - بكسر الخاء - بمعنى المخابرة . والمخابرة : المزارعة بالنصف والثلث والربع ، وأقل وأكثر . وكان أبو عبيد يقول : لهذا سمي الأكار خبيرا ; لأنه يخابر على الأرض ، والمخابرة : هي المؤاكرة .

              [ ص: 248 ] وقد قال بعضهم : أصل هذا من خيبر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرها في أيديهم على النصف ، فقيل : خابرهم ، أي عاملهم في خيبر ، وليس هذا بشيء ، فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط ، بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته ، وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر ، وقد فسرا ما كانوا يفعلونه ، والخبير : هو الفلاح سمي بذلك ; لأنه يخبر الأرض .

              وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة ، فقالوا : المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل ، والمزارعة على أن يكون البذر من المالك . قالوا : والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة لا المزارعة .

              وهذا أيضا ضعيف ، فإنا قد ذكرنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في الصحيح من أنه " نهى عن المزارعة " كما " نهى عن المخابرة " وكما " نهى عن كراء الأرض " . وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه ، وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ، ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل ، وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة . والاشتقاق يدل على ذلك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية