الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما الوصية للقاتل فلا تصح عندنا سواء أوصى له قبل الجراحة أو بعدها ، وقال مالك تصح الوصية له في الوجهين ، وقال الشافعي إن أوصى له قبل أن يجرحه بطلت الوصية بقتله إياه ، وإن أوصى بعدما جرحه صحت الوصية . وجه قول مالك أن هذا تمليك المال بالعقد فالقتل [ ص: 177 ] لا يبطله كالتمليك بالبيع والهبة وبأن كان يبطل الإرث لا يستدل على أنه يبطل الوصية كالرق واختلاف الدين ، فإنه ينفي التوريث ولا يمنع الوصية والفرق للشافعي من وجهين أحدهما أنه إن كان الجرح بعد الوصية فالظاهر أن الموصي نادم على وصيته راجع عنها ، وإذا كانت الوصية بعد الجرح فلم يوجد بعد الوصية ما يدل على الرجوع عنها بل الظاهر أنه قصد الانتداب إلى ما ندب إليه ، وهو مقابلة السيئة بالإحسان والثاني أنه إذا جرحه بعد الوصية فالموصى له قصد الاستعجال بفعل محظور فيعاقب بالحرمان كالميراث ، فأما إذا أوصى له بعد الجراحة فلم يتوهم قصد الاستعجال في تلك الجراحة ولا بعد الوصية فبقيت الوصية على حالها .

وجه قولنا ظاهر قوله عليه السلام : { ليس لقاتل شيء } ، ويدخل الوصية والميراث جميعا في عموم هذا اللفظ ، وقال : { ولا وصية لقاتل } ، ولأن الملك بالوصية يثبت بعد الموت فيكون معتبرا بالملك الثابت بالميراث ولا فرق بينهما في المعنى ; لأن بطلان الوصية للوارث لدفع المغايظة عن سائر الورثة وبطلان الوصية للقاتل لهذا المعنى أيضا ، فإنه يغيظهم أن يقاسمهم قاتل أبيهم تركة أبيهم بسبب الإرث أو بسبب الوصية ، وفي هذا المعنى لا فرق بين أن تتقدم الوصية على الجرح أو تتأخر عنه وبه فارق الرق والكفر ، فإن الحرمان بهما لانعدام الأهلية للولاية لا لدفع المغايظة عن سائر الورثة ولا معتبر بالأهلية للولاية في الوصية ، وبخلاف سائر عقود التمليكات ; لأنها لا تشابه الإرث صورة ولا معنى ، وكذلك لو كان القاتل وارثا فأوصى له لم تجز الوصية ، وهذا تجوز في العبارة ، فإن القاتل لا يكون وارثا ، وإن كان وارثا كالصبي والمعتوه والوصية لمثل هذا القاتل تصح .

ثم الوجه فيه أنه اجتمع فيه وصفان كل واحد منهما بانفراده يجزئ الوصية فاجتماعهما أولى ، فإن أجازت الورثة الوصية للقاتل جازت في قول أبي حنيفة ومحمد ولم تجز في قول أبي يوسف ذكر قوله في الزيادات ; لأن الوصية أخت الميراث ولا ميراث للقاتل ، وإن أوصى به الورثة فكذلك الوصية ، وهذا لأن الحرمان كان بطريق العقوبة حقا للشرع فلا يتغير ذلك بوجود الرضا من الورثة والدليل عليه أنه لو أوصى لحربي في دار الحرب لم تجز الوصية لتباين الدار ، وإن أجازت الورثة ، وإنما امتنعت الوصية للحربي لكونه محاربا حكما والقاتل محارب له حقيقة فلأن لا تنفذ الوصية له بإجازة الورثة كان أولى وجه قولهما أن الوصية للقاتل أقرب إلى الجواز من الوصية للوارث ; لأن الأمر في نفس الوصية للوارث مشهور ، وفي نفي الوصية للقاتل مسبور والعلماء اتفقوا على أن لا وصية للوارث واختلفوا في جواز الوصية للقاتل ، ثم بإجازة الورثة تنفيذ الوصية [ ص: 178 ] للوارث فكذلك للقاتل والمعنى فيهما واحد ، وهو أن المغايظة تنعدم عند وجود الرضا من الوارث بالإجازة في الموضعين جميعا بخلاف ميراث القاتل ، فإن ثبوت الملك بالميراث بطريق الحكم حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد والإجازة إنما تعمل فيما تعتمد القبول ويرتد بالرد وبخلاف الوصية للحربي في دار الحرب ; لأن بطلانها لانعدام الأهلية في جانب الموصى له ، فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولهذا تنقطع العصمة بتباين الدارين حقيقة وحكما والميت لا يكون أهلا للوصية له ولا تأثير للإجازة في إثبات الأهلية لمن ليس بأهل .

التالي السابق


الخدمات العلمية