الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( بروح القدس ) : قراءة الجمهور : بضم القاف والدال . وقرأ مجاهد وابن كثير : بسكون الدال حيث وقع ، وفيه لغة فتحها . وقرأ أبو حيوة : القدوس ، بواو . والروح هنا : اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى - عليه السلام - يحيي الموتى ، قاله ابن عباس ، أو الإنجيل ، كما سمى الله القرآن روحا ، قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) قاله ابن زيد ، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى - عليه السلام - أو جبريل - عليه السلام - قاله قتادة والسدي والضحاك والربيع ، ونسب هذا القول لابن عباس ، قاله ابن عطية ، وهذا أصح الأقوال . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت " اهج قريشا وروح القدس معك " ، ومرة قال له ; " وجبريل معك " . انتهى كلامه . قالوا : ويقوي ذلك قوله تعالى : ( إذ أيدتك بروح القدس ) . وقال حسان :


وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء



وتسمية جبريل بذلك ؛ لأن الغالب على جسمه الروحانية ، وكذلك سائر الملائكة ، أو لأنه يحيا به الدين ، كما يحيا البدن بالروح ، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي ، أو لتكوينه روحا من غير ولادة . وتأييد الله عيسى بجبريل - عليهما السلام - لإظهار حجته وأمر دينه ، أو لدفع اليهود عنه ، إذ أرادوا قتله ، أو في جميع أحواله . واختار الزمخشري أن معناه : بالروح المقدسة ، قال : كما يقال حاتم الجود ، ورجل صدق . ووصفها بالقدس كما قال : و " روح منه " ، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة . انتهى كلامه . وقد تقدم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة . وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء الله تعالى ، كالقدوس . قالوا : وإطلاق الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز ؛ لأن الروح هو الريح [ ص: 300 ] المتردد في مخارق الإنسان في منافذه . ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ، إلا أن كلا منها أطلق الروح عليه على سبيل التشبيه من حيث إن الروح سبب للحياة ، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم ، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها ، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض . والمشابهة بين جبريل والروح أتم ، ولأن هذه التسمية فيه أظهر ، ولأن المراد من أيدناه : قويناه وأعناه ، وإسنادها إلى جبريل حقيقة ، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز . ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص ، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ؛ لأنه هو الذي بشر مريم بولادته ، وتولد عيسى بنفخه ، ورباه في جميع الأحوال ، وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حيث صعد إلى السماء .

( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) : الهمزة أصلها للاستفهام ، وهي هنا للتوبيخ والتقريع . والفاء لعطف الجملة على ما قبلها ، واعتني بحرف الاستفهام فقدم ، والأصل فأكلما . ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف ، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها ، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل ، آتيناكم ما آتيناكم . فكلما جاءكم رسول . ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف ، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق . وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى : ( كلما رزقوا منها ) ، فأغنى عن إعادته . والناصب لها قولها : ( استكبرتم ) . والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل ، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق ، وتكذيب الرسل ، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم ، والشك والارتياب فيما أتوهم به ، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك . وسياق الآيات يدل عليه ، أو إلى من بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبنائهم ، لأنهم راضون بفعلهم ، والراضي كالفاعل . وقد كذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وسقوه السم ليقتلوه ، وسحروه . وبما : متعلق بقوله : جاءكم ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي لا تهواه . وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق ، ومنه هذه الآية . وأسند الهوى إلى النفس ، ولم يسند إلى ضمير المخاطب ، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة ، ( إن النفس لأمارة بالسوء ) ، ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) ، ( قال بل سولت لكم أنفسكم ) . استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل ، وهو أحد معاني استفعل . وفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس . والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول . أو استبعادا للرسالة ، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب . وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق ، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم ، وهو كما ذكرنا استكبار بمعنى التكبر ، وهو مشعر بالتكلف والتفعل لذلك ، لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء ، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته ؛ لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى ، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة .

( ففريقا كذبتم ) : ظاهره أنه معطوف على قوله : استكبرتم ، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط ، حيث لا يقدرون على قتله ، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله وتهيأ لهم ذلك ، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه . واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك ، فذكر أقبح أفعالهم معه ، وهو قتله . وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون ( ففريقا كذبتم ) معطوفا على قوله : ( وأيدناه ) ، ويكون قوله : أفكلما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار . والأظهر في ترتيب الكلام الأول ، وهذا أيضا محتمل ، وأخر العامل وقدم المفعول ليتواخى رءوس الآي ، وثم محذوف تقديره : ففريقا منهم كذبتم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ، ولأنه المشترك بين الفريقين : المكذب والمقتول .

( وفريقا تقتلون ) : وأتى بفعل القتل مضارعا ، إما لكونه حكيت [ ص: 301 ] به الحال الماضية ، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس ، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه ، ولما فيه من مناسبة رءوس الآي التي هي فواصل ، وإما لكونه مستقبلا ، لأنهم يرومون قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سحروه وسموه . وقال - صلى الله عليه وسلم - عند موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " . وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم ؛ لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له يرومون قتله . فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله ؟ فقتله عندهم أولى . قال ابن عطية عن بني إسرائيل : كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم تقوم سوقهم آخر النهار . وروي سبعين نبيا ، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار .

( وقالوا قلوبنا غلف ) : الضمير في قالوا عائد على اليهود ، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا ذلك بهتا ودفعا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات ، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات . نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية . وقرأ الجمهور : غلف ، بإسكان اللام . وتقدم الكلام على سكون اللام ، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف ؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف ؟ وأصله الضم ، كحمار وحمر . قال ابن عطية : وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر . ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو حمر جمع حمار ، دون ضرورة . وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وابن هرمز ، وابن محيصن ، غلف : بضم اللام ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وهو جمع غلاف ، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف ؛ لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر . يقال غلفت السيف : جعلت له غلافا . فأما من قرأ : غلف بالإسكان ، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز . وقال مجاهد : أي عليها غشاوة . وقال عكرمة : عليها طابع . وقال الزجاج : ذوات غلف ، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة . وقيل معناه : خلقت غلفا لا تتدبر ولا تعتبر . وقيل : محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين . ويحتمل على هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة ، حتى يسكتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون ذلك خبرا منهم بحال قلوبهم ؛ لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها ، وكانوا يدفعون بغير ذلك ، وأسباب الدفع كثيرة . وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم ، أقاموا العلم مقام شيء مجسد ، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له ، ليستدل بالمحسوس على المعقول . ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم ، فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعيته ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي . ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبنا غلف ، أي مملوءة علما ، فلا تسع شيئا ، ولا تحتاج إلى علم غيره ، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره . ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة ، وهي لصلابتها وقوتها تمنع أن يصل إليها غير ما فيها ، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره . وقيل : المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه .

( بل لعنهم الله بكفرهم ) : بل : للإضراب ، وليس إضرابا عن اللفظ المقول ؛ لأنه واقع لا محالة ، فلا يضرب عنه ، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم : إن قلوبهم غلف ، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق ، مفطورة لإدراك الصواب ، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه . ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم ، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر .

( فقليلا ما يؤمنون ) : انتصاب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي فإيمانا قليلا يؤمنون ، قاله قتادة . وعلى مذهب سيبويه : انتصابه على الحال ، التقدير : فيؤمنونه ، أي الإيمان في حال قلته . وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف ، أي فزمانا قليلا يؤمنون ، لقوله تعالى : [ ص: 302 ] ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) . وجوزوا أيضا انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون ، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل ، وهو قول معمر . وجوزوا أيضا أن يكون حالا من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون ، المعنى : أي فجمعا قليلا يؤمنون ، أي المؤمن منهم قليل ، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة ، وملخصه : أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر ، أو للزمان ، أو للمؤمن به ، أو للفاعل . فبالنسبة إلى المصدر : تكون القلة بحسب متعلقه ؛ لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة . وبالنسبة إلى الزمان : تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - قليلا ، وهو زمان الاستفتاح ، ثم كفروا بعد ذلك . وبالنسبة إلى المؤمن به : تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه ، إذ هم مجسمون ، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة . وبالنسبة للفاعل : تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلا . وقال الواقدي : المعنى أي لا قليلا ولا كثيرا ، يقال قل ما يفعل ، أي ما يفعل أصلا . وقال ابن الأنباري : إن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا . وقال المهدوي : مذهب قتادة أن المعنى : فقليل منهم من يؤمن ، وأنكره النحويون وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع قليل . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ، وما ذهبوا إليه من أن قليلا يراد به النفي صحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : ( فقليلا ما يؤمنون ) ؛ لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : قمت قليلا ، أي قياما قليلا . ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلا منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل ، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية . وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم : أقل رجل يقول ذلك ، وقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد ، وقليل من الرجال يقول ذلك ، وقليلة من النساء تقول ذلك . وإذا تقرر هذا ، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح . وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة ، وإنكار النحويين ذلك ، وقولهم : لو كان كذلك للزم رفع قليل . فقول قتادة صحيح ، ولا يلزم ما ذكره النحويون ؛ لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ، ولم يرد شرح الإعراب فيلزمه ذلك . وإنما انتصاب قليلا عنده على الحال من الضمير في يؤمنون ، والمعنى عنده : فيؤمنون قوما قليلا ، أي في حالة قلة . وهذا معناه : فقليل منهم من يؤمن . وما في قوله : ما يؤمنون ، زائدة مؤكدة ، دخلت بين المعمول والعامل ، نظير قولهم : رويد ما الشعر ، وخرج ما أنف خاطب بدم . ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية ؛ لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر . والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول ، وهو أن يكون المعنى : فإيمانا قليلا يؤمنون ؛ لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان ، وعلى الهيئة ، وعلى المفعول ، وعلى الفاعل ، ولموافقته ظاهر قوله تعالى : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) . وأما قول العرب : مررنا بأرض قليلا ما تنبت ، وأنهم يريدون لا تنبت شيئا ، فإنما ذلك لأن قليلا انتصب على الحال من أرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية ، والتقدير : قليلا إنباتها ، أي لا تنبت شيئا ، وليست ما زائدة ، وقليل نعت لمصدر محذوف ، تقدير الكلام : تنبت قليلا ، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض ، لأن قولك : تنبت قليلا ، لا يدل على نفي الإنبات رأسا ، وكذلك لو قلنا : ضربت ضربا قليلا ، لم يكن معناه ما ضربت أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية