الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              [ ص: 280 ] وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ؛ لأن الله قال في كتابه العزيز : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29 ] ، وقال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) ، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه ، فدل على أنه سبب له ، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب . فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم . وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق ، فكذلك سائر التبرعات ، قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن . وكذلك قوله : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة . وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع ، ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله ، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك .

              وأيضا فإن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد . ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به : ينافي العقد المطلق ، فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره ، وإن أريد : ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد ، احتاج إلى دليل على ذلك ، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد . فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود ، فقد جمع بين المتناقضين : بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء . ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا .

              والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع ، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا [ ص: 281 ] مقصوده [ فإن مقصوده ] الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا . فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق . فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله . فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما ، فلم يكن لغوا ، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله ، فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ، لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه . فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه ، فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج .

              وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال : لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص ، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور ، كما ذكرناه من القول الأول ، أو يقال : لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي ، وإن كان عاما . أو يقال : تصح ولا تحرم ، إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .

              والقول الأول : باطل ؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر ، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم . فقال سبحانه في آية الربا : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) [ البقرة ] ، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا ، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - [ ص: 282 ] يوجب أنه غير منهي عنه . ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ، ولم يأمرهم برد المقبوض ، وقال صلى الله عليه وسلم : أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم ، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام . وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ، ولم يستفصل [ أحدا ] : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته ، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام ، كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة " أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن " ، وكما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان " أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى " ، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس " أن يفارقوا ذوات المحارم " . ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين ، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع . ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع ، لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .

              فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ، ثم أسلموا بعد زواله : مضت ، ولم يؤمروا باستئنافها ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله ، فليس ما عقدوه [ ص: 283 ] بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع ، وكلاهما عندكم سواء .

              قلنا : ليس كذلك ، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض ، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ ، لا قبل القبض ولا بعده ، ولم أر الفقهاء من أصحابها وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض ، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه ، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها . كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما ، وإن كان بغير نكاح . فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - وإن لم يقترن بالآخر - [ أقرهم ] الشارع على ذلك ، بخلاف الأموال ، فإن المقصود بعقودها هو التقابض . فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها ، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود .

              فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم ؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل .

              وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها ، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها ، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد . ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله . فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود : لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه ، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد ، فإنه آثم ، وإن كان قد صادف الحق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية