الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل

              هذا إذا أكرى الأرض والشجر ، أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم . فإن باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى : فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل ، وبعضه عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين ، إذا كان الأغلب هو السكنى ، وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما . فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق ، كما تقدم من النظائر . وهذا إذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصودا له ، كما يجري في حوائط دمشق ، فإن البستان يكترى في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا ، بل العمل على المكري المضمن .

              وعلى ذلك الأصل : فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال ، سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة ، كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول . فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة ، وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة ، بخلاف القسم الأول ، فإنه قد يقال : هو إجارة ; لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا ، بخلاف القسم الأول ، فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر ، ولهذا يسميه الناس : ضمانا ، إذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة . فسمي باسم الالتزام العام في المعاوضات وغيرها ، وهو الضمان ، كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا ، لكن ذلك يسمى إجارة . وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء ، وفيه بيع أيضا .

              [ ص: 218 ] فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا ، وإنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا ، ويريد أن يقيم في الحديقة لقطافه : فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه ; لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر ، فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر ، بخلاف القسم الذي قبله ، فإن المنفعة إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها ، واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ، [ فاحتاج إلى الجمع لأن المستأجر لا يمكنه إذا استأجر المكان للسكنى يدع غيره يشتري الثمرة ] ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها ، فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه .

              ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى ، والشجر قليل ، مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب ونحو ذلك ، فالجواز هنا مذهب مالك ، وقياس أكثر نصوص أحمد وغيره . وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر ، وهو أكثر من منفعة السكنى ، فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها ، كما فرق بينهما مالك وأحمد ، وإن كان المقصود السكنى والأكل : فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر . وإن كان ثمن المأكول أكثر : فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ، ودون الأولى على قول من يفرق . وأما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف : فالجميع جائز ، كما قررناه لأجل الجمع . فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقثاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر ، فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة . وهذا جائز ، كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن [ ص: 219 ] يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه ، وهذه إجارة عين وإجارة على عمل في الذمة ، إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل ، فيكون قد استأجر عينين .

              ولو لم تكن السكنى مقصودة ، وإنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس ، والسقي على البائع : فهذا عند الليث يجوز ، وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا وغيرهم وقررناه ; لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة ، وربما كان أشد ، فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه ، فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك ، وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير . وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ، ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن . وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم . وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم مثل هذا ، مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه ، لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية ، التي اعتقدوا شمولها [ لمثل هذا مع ما سمعوه ] من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم : هو الذي أوجب ما أوجب . وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقثاة جميعها بعد بدو صلاحها ; لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر ، كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد ، وإن كانت المشقة في المقثاة أوكد ، ولهذا جوزها من منع [ ذلك في ] الأجناس كمالك .

              فإن قيل : هذه الصورة داخلة في عموم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع [ ص: 220 ] الثمر حتى يبدو صلاحه ، بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه ، فإنه - كما قررتم - ليس بداخل في العموم ; لأنه إجارة لمن يعمل ، لا بيع لمعين ، وأما هذا فبيع للثمرة ، فيدخل في النهي ، فكيف تخالفون النهي ؟

              قلنا : الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه ، وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه ، وما نصرناه من ابتياع المقاثي ، مع أن بعض خضرها لم يخلق ، وجواب ذلك بطريقين :

              أحدهما : أن يقال : إن النهي لم يشمل بلفظه هذه الصورة ; لأن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله ; لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون . فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه ، كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) [النور : 63 ] وفي قوله : ( فعصى فرعون الرسول ) ، وإلى النوع المخصوص : نهيه عن بيع الثمر [ بالثمر ] فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب ، دون العنب وغيره ، وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى [ العموم ] [وتعريف المضاف إليه ] فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه ، دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه .

              ونظير هذا : ما ذكره أحمد في " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل [ ص: 221 ] في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " فحمله على ما كان معهودا على عهده في المياه الدائمة ، كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة . فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده ، فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي .

              يدل على عدم العموم في مسألتنا : أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قيل : ما تزهى ؟ قال تحمر وتصفر " وفي لفظ : " نهى عن بيع الثمر حتى يزهو " ولفظ مسلم : " نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو " ، ومعلوم أن ذلك : هو ثمر النخل ، كما جاء مقيدا ; لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر ، وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض ، كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ ، والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ، ويسميه الدمشقيون الدراق ، أو باللين بلا تغير لون كالتين ونحوه .

              ولذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال : تحمار أو تصفار ويؤكل منها " وهذه الثمرة هي الرطب . وكذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ، ولا تبتاعوا التمر بالتمر " ، والتمر الثاني هو الرطب بلا ريب ، فكذلك الأول ; لأن اللفظ واحد . وفي صحيح مسلم قال : قال [ ص: 222 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه ، وتذهب عنه الآفة " وقال : " بدو صلاحه : حمرته أو صفرته " فهذه الأحاديث التي فيها لفظ [الثمر] .

              وأما غيرها فصريح في النخل ، كحديث ابن عباس المتفق عليه : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل منه ، أو يؤكل منه " ، وفي رواية لمسلم عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع النخل حتى يزهو ، وعن السنبل حتى يبيض ، ويأمن العاهة . نهى البائع والمشتري " . والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته .

              فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض ، وإنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون ، وعامة معنى لكل ما كان في معناه . وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه ، فلم يتناوله دليل الحرمة ، فيبقى على الحل . وهذا وحده دليل على عدم التحريم ، وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية تدل على ذلك ، لكن بشرط نفي الناقل المغير ، وقد بينا انتفاءه .

              الطريق الثاني : أن نقول : وإن سلمنا العموم اللفظي ، لكن ليست هي مرادة بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم ، فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والإجماع في [ ص: 223 ] الثمر التابع لشجره ، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ابتاع نخلا [ لم يؤبر ] فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع " أخرجاه من حديث ابن عمر . فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير . ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ، ولا يجوز بيعها مفردة . والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ، ويجوز أيضا تخصيصه بالإجماع وبالقياس القوي ، وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما ، أو بالاشتداد بلا تغير لون ، كالجوز واللوز ، فبدو الصلاح في الثمار متنوع ، تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس ، وتارة باليبس بعد الرطوبة ، وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض ، وتارة لا يتغير .

              وإذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر : علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار ، وإنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة ، وقد جاء مقيدا : أنه النخل .

              فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة ، فإنه عظيم المنفعة في هذه [ القضية ] التي عمت بها البلوى ، وفي نظائرها ، وانظر في عموم كلام الله ورسوله لفظا ومعنى ، حتى تعطيه حقه ، وأحسن ما تستدل به على معناه : آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده ، فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى : ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157] .

              [ ص: 224 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية