الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : ذكر ذاكر أن أكثر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كانت بقراءة نافع ، وهذا شيء لا أصل له البتة بل كان يقرأ بجميع الأحرف المنزلة عليه ، وكيف ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر لم يروه عنه أحد من الصحابة ، ولا خرجه أحد من أئمة الحديث في كتبهم لا بإسناد صحيح ولا بإسناد غير صحيح ، ثم إن هذا أمر لا يعرف لا من جهة الصحابة الذين سمعوا قراءته والذي روى عنهم أنهم قالوا قرأ بسورة كذا [ أو بسورة كذا ] ، ولم يقولوا في روايتهم قرأ السورة الفلانية بلفظ كذا ولفظ كذا حتى تطابق تلك الألفاظ فتوجد موافقة لقراءة نافع ، ولو ثبت هذا الكلام عند الإمام مالك رضي الله عنه لكان أول قائل بقراءة البسملة في الصلاة ; لأن البسملة ثابتة في قراءة قالون عن نافع ، ولم يثبت عند مالك أنه صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في الصلاة ، فهذا يدل على أنه لم يثبت عنده أنه كان أكثر قراءته بقراءة نافع ، وما كل حديث وجد مقطوعا بغير سند في كتاب يجوز الاعتماد عليه حتى يثبت تخريجه في كتاب حافظ بسند متصل صحيح ، وكم في الكتب من أحاديث لا أصل لها ثم تبين أن هذا النقل لا وجود له ، وأن الذي نقله القرافي في الذخيرة أنه تستحب القراءة بتسهيل الهمزة ; لأن ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كلام في غاية الحسن لا غبار عليه ; لأن العلماء أجمعوا على أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم لغة قريش ، ولغة قريش عدم تحقيق الهمز فيكون ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم صحيح ، ولكن ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر قراءته في الصلاة بقراءة نافع ، ولا روى هذا أحد من الصحابة البتة ولا خرجه أحد من أئمة الحديث ، بل ولا في هذا دلالة على أنه كان أكثر قراءته بتسهيل ، أكثر ما فيه أنه دل على أن ذلك لغته من غير قدر زائد على ذلك ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بجميع ما أنزل عليه بتسهيل الهمز الذي هو لغته ، وبتحقيق الهمز الذي هو لغة غير قريش ، وبترك الإمالة الذي هو لغة الحجاز ، وبالإمالة التي هي لغة تميم ، وذكر الأكثرية تحتاج إلى نصر من الصحابة مخرج في كتاب معتبر بإسناد متصل صحيح ، ولا وجود لذلك البتة ، وذكر أن القراءة بالترقيق في الصلاة مكروهة ; لأنها تذهب الخشوع وليس كذلك ; لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهي ، وقوله : إنها تذهب الخشوع ممنوع ; لأنه [ ص: 131 ] إن كان ذلك من جهة الفكر في أداء تلك الهيئة ; فجميع هيئات الأداء كذلك ، والفكر في أداء ألفاظ القرآن على الهيئة التي أنزل عليها لا ينافي الخشوع ; لأنه من أمور العبادة والدين ، وإنما ينافي الخشوع الفكر في الأمور الدنيوية لا الدينية ولا الأخروية - نصوا عليه - ثم إن المكروه عند الأصوليين من قسم القبيح كما أن المندوب عندهم من قسم الحسن ، ولا يوصف شيء من القرآن بالقبح ، فإن قال قائل : قد ذهب جماعة إلى أن بعض القرآن أفضل من بعض ، قلنا : مع اتفاقهم على أن الكل يقرأ ولا يقول أحد بأن غير الأفضل تكره قراءته ، هذا لا يتوهمه أحد ، ثم إن قراءة القرآن بالأحرف الثابتة في السبعة فرض كفاية بالإجماع ، فكيف يتخيل أن يوصف ما هو فرض كفاية بأنه مكروه ؟

            ثم تبين أن هذا النقل لا وجود له ، وأن الذي نقله القرافي في الذخيرة وكره مالك الترقيق والتفخيم والروم والإشمام في الصلاة ; لأنها تشغل عن أحكام الصلاة ، وليس المراد بهذه الكراهة التي هي أقسام الأحكام الخمسة التي يصفها الأصوليون بأنها داخلة في قسم القبيح كالحرام ، بل الكلام في كلام الأئمة المجتهدين كمالك والشافعي لها إطلاقان :

            أحدهما هذا ويعبر عنها بالكراهة الشرعية .

            والآخر بمعنى : أن المجتهد أحب واختار أن لا يفعل ذلك من غير إدخاله في قسم المكروه الذي هو من نوع القبيح ، ويعبر عن هذه بالكراهة الإرشادية وهذه الكراهة لا ثواب في تركها ولا قبح في فعلها .

            وقد ذكر أصحابنا ذلك في قول الشافعي : وأنا أكره المشمس من جهة الطب ، فاختلفوا هل هذه الكراهة شرعية يثاب فيها أو إرشادية لا ثواب فيها ؟ على وجهين ، وقال الشافعي : وأنا أكره الإمامة ; لأنها ولاية وأنا أكره سائر الولايات ، فليس مراد الشافعي بذلك الكراهة التي هي أحد أقسام الحكم الخمسة الداخلة في قسم القبيح ، كيف والإمامة فرض كفاية ; لأن بها تنعقد الجماعة التي هي فرض كفاية ، والرافعي يقول : إنها أفضل من الأذان وفي كل منهما فضل وذلك مناف للكراهة قطعا ، وإنما مراد الشافعي أنه لا يحب الدخول فيها ولا يختاره للمعنى الذي ذكره فهي كراهة إرشادية لا شرعية ، فلو فعلها لم يوصف فعله بقبح بل هو آت بعبادة فيها فضل إجماعا ، إما فضل يزيد على فضل الآذان كما هو رأي الرافعي ، أو ينقص عنه كما هو رأي النووي ، ولو كانت الإمامة مكروهة كراهة شرعية لم يكن فيها فضل البتة ; لأن الكراهة والثواب لا يجتمعان ، وكذلك قول القرافي ، وكره مالك ما ذكر معناه أنه أحب واختار أن لا يفعل ذلك للمعنى الذي ذكره فهو أمر إرشادي ، وليس مراده الكراهة التي يدخل متعلقها في قسم القبيح ، معاذ الله هذا لا يظن بمن هو دون [ ص: 132 ] مالك بكثير فضلا عن هذا الإمام الجليل إمام دار الهجرة وإمام أهل المشرق والمغرب رضي الله عنه وعنا به .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية