الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه : هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعوه إلى ذلك : ليس الأمر كما قال وهو حلال فإنه ينظر إلى حالهم فإن كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول ذلك الواحد لأن خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فإن خبر الجماعة حجة في الديانات والأحكام وخبر الواحد ليس بحجة في الأحكام ولأن الظاهر من حال المسلمين أنهم لا يأكلون ذبيحة المجوسي ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر مستنكر فلا يقبل ، وإن كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئا من ذلك لأن خبره باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولأن خبر العدل بالحرمة يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال صلى الله عليه وسلم { : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } [ ص: 165 ] ويستوي إن كان المخبر بالحرمة حرا أو مملوكا ذكرا أو أنثى لأنه أخبر بأمر ديني فإن الحل والحرمة من باب الدين ولو كان في القوم رجلان مرضيان أخذ بقولهما لأن الحجة في الأحكام تتم بخبر المثنى فلا يعارض خبرهما خبر الواحد وإن كان فيهم ثقة واحد عمل فيه على أكبر رأيه لاستواء الخبرين عنده وإن لم يكن له فيه رأي واستوى الحالان عنده فلا بأس بأكل ذلك وشربه وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك أما المصير إلى غالب الرأي فللمعارضة بين الخبرين لأن عند المعارضة لا بد من ترجيح أحد الجانبين وغالب الرأي يصلح أن يكون دليلا للعمل في بعض المواضع فلأن يصلح للترجيح أولى فإن لم يكن له رأي تمسك بأصل الطهارة .

( فإن قيل ) : لا معارضة بين الخبرين لأن أحدهما ينفي الحرمة والآخر يثبت ولا تعارض بين النفي والإثبات ( قلنا ) : هذا في الشهادات فأما في الأخبار المعارضة تتحقق بين النفي والإثبات لأن كل واحد منهما بانفراده مقبول .

( فإن قيل ) : لا كذلك في الشاهد إذا زكاه أحد المزكين وجرحه الآخر كان الجرح أولى لأن الجرح مثبت والآخر ناف .

( قلنا ) : نعم ، ولكن في كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل في خبره تتحقق المعارضة في ذلك بين النفي والإثبات وفي كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل يترجح المثبت فهنا النافي معتمد لدليل لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة وكذلك حل الطعام وحرمته فلهذا تحققت المعارضة والذي زكى الشاهد لا يعتمد دليلا في خبره لأن نفي أسباب الجرح لا يعلم حقيقة فلهذا يرجح المثبت هناك على النافي فإن كان الذي أخبره بأنه حلال مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حرام واحد حر فلا بأس بأكله لأن في الخبر الديني المملوك والحر سواء ولا تتحقق المعارضة بين الواحد والمثنى في الخبر لأنه يحصل من طمأنينة القلب بخبر الاثنين ما لا يحصل بخبر الواحد وإن كان الذي زعم أنه حرام مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حلال حر واحد ثقة ينبغي له أن لا يأكله لما بينا أن خبر الواحد لا يكون معارضا لخبر الاثنين وكذلك لو أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة وبالآخر حر ثقة يعمل بأكبر رأيه فيه لأن الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين خبر الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة بين الخبرين يصير إلى الترجيح بأكبر الرأي وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين لأن الحجة تتم بقول الحرين ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين لأن في قولهما زيادة إلزام فإن الإلزام بقول المملوكين ينبني على الإلزام [ ص: 166 ] اعتقادا والإلزام في قول الحرين لا ينبني على الإلزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة إلزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال :

ألا ترى { أن أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة أم الأم السدس فقال : ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته فأعطاها أبو بكر رضي الله عنه السدس وهذا من أمر الدين } { وعمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد عنده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على مثل شهادته } قال محمد : فهذا إنما فعلاه للاحتياط والواحد يجزي وكان عيسى بن أبان يقول : بل إنما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لأن طمأنينة القلب تحصل بقول المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة فأما في زماننا فقد تحقق معنى الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والأصح ما أشار إليه محمد رحمه الله تعالى أنهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وإن لم يشهد شاهد آخر .

ألا ترى أن { عمر رضي الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولم يطلب شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين أراد أن يدخل الشام وبها الطاعون فاستشارهم فأشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فأخذ عمر رضي الله عنه بقوله ورجع } وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال : تأويله أنه إذا كان بحال لو دخل فابتلي وقع عنده أنه ابتلي بدخوله ولو خرج فنجي وقع عنده أنه نجي بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شيء بقدر وأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله تعالى فلا بأس بأن يدخل ويخرج .

واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث { عمر رضي الله عنه فأنه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله } [ ص: 167 ] { وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الإسلام فكان حجة عليه } فهذا كله دليل أن خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت كما هو اليوم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كنت إذا لم أسمع من رسول الله حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به علي رضي الله عنه فإنه كان يحلف الشاهد ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول أن خبره يصير مزكى بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه إلا أبو بكر رضي الله عنه فإن تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا نأخذ بهذا القول لأن الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولا حلف المدعي مع البينة ولا يجوز أن يقال : إنهم قد تركوا نقله لأن هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم البلوى فقد نقلوا كل ما دق وجل من أقواله وأفعاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية