الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أن رجلا مسلما شهد عنده رجل أن هذه الجارية التي هي في يد فلان وهي مقرة له بالرق أمة لفلان غصبها والذي هي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون على ما ذكر فأحب إلي أن لا يشتريها وإن اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك لأن المخبر مكذب فيما أخبر به شرعا والقول قول ذي اليد أنها مملوكة له فله أن يعتمد الدليل الشرعي فيشتريها وإن احتاط فلم يشترها كان أولى له لأنه متمكن من تحصيل مقصوده بغيرها وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في مثله : كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام ولو أخبره أنها حرة الأصل أو أنها كانت أمة لهذا الذي [ ص: 173 ] في يده فأعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والأول سواء لما بينا أن المخبر مكذب شرعا وإن تصادقهما على أنها مملوكة لذي اليد حجة شرعا في إثبات الملك له فللمشتري أن يعتمد الحجة الشرعية والتنزه أفضل له .

( فإن قيل ) في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم أنها معتقة أو حرة فلو جعلت هذا نظير ما سبق ( قلنا ) : لا كذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل شرعي ومع ثبوت الملك لا حرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذي يشهد فيه بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا أن حل الوطء لا يكون إلا بملك والملك المحكوم به شرعا لا يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبني عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه وانتقلت إلى ملك ذي اليد بسبب صحيح أو يعلم أنه وكله ببيعها لأن دليل الملك الأول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه إلا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا يحل إلا بإذن المالك ولو علم القاضي ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الأول حتى يثبت الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذي يريد شراءه فإن سأل ذا اليد فقال : إني قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض إنكار الأول ولم يوجد ولو كلفناه الرجوع إلى الأول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز أن يكون غائبا أو مختفيا وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا أن في المعاملات لا يمكن اعتبار العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لأن الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأي إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الأخبار الدينية فههنا أولى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشيء من ذلك لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في ذلك .

والأصل فيه { قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وإن أفتاك الناس به } وقال صلى الله عليه وسلم { : الإثم حزاز القلوب } أي على المرء أن يترك ما حز في قلبه تحرزا عن الإثم وكذلك لو لم يعلم أن ذلك الشيء لغير الذي هو في يديه حتى أخبره الذي في يديه أنه لغيره وأنه وكله [ ص: 174 ] ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه لأن إقراره بالملك للغير حجة في حق المقر شرعا فهذا في حق السامع بمنزلة ما لو علم ملك الغير بأن عاينه في يده فإن كان المخبر ثقة صدقه فيما أخبر به من سبب الولاية له في بيعه وكذلك إن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق فيه صدقه أيضا وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يقبل ذلك منه ولم يشتره وإن كان لم يخبره أن ذلك الشيء لغيره فلا بأس بشرائه منه وقبول هبته وإن كان غير ثقة لأن دليل الملك شرعا ثابت له وهو اليد والفاسق والعدل في هذا الدليل سواء حتى إذا نازعه غيره فالقول قوله ويحل لمن رآه في يده أن يشهد له بالملك والمصير إلى أكبر الرأي عند انعدام دليل ظاهر كما لا يصار إلى القياس عند وجود النص .

( قال ) إلا أن يكون مثله لا يتملك مثل ذلك العين فأحب أن يتنزه عنه ولا يتعرض له بالشراء أو غيره وذلك كدرة يراها في يد فقير لا يملك شيئا أو رأى كتابا في يد جاهل ولم يكن في آبائه من هو أهل لذلك فالذي سبق إلى قلب كل أحد أنه سارق لذلك العين فكان التنزه عن شرائه منه أفضل وإن اشترى أو قبل وهو لا يعلم أنه لغيره رجوت أن يكون في سعة من ذلك لأنه يزعم أنه مالك والقول قوله شرعا فالمشتري منه يعتمد دليلا شرعيا وذلك واسع له إلا أنه مع هذا لم يبت الجواب وعلقه بالرجاء لما ظهر من عمل الناس ولما سبق إلى وهم كل أحد أن مثله لا يكون مالكا لهذه العين فإن كان الذي أتاه به عبد أو أمة لم ينبغ له أن يشتري ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك لأن المنافي للملك وهو الرق معلوم فيه فما لم يعلم دليلا مطلقا للتصرف في حق من رآه في يده لا يحل له الشراء منه لأنه عالم أنه لغيره واليد في حق المملوك ليس بمطلق للتصرف وإن الرق مانع له من التصرف ما لم يوجد الإذن فإن سأله فأخبره أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأمون فلا بأس بشرائه منه وقبوله لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح وهو محتمل في نفسه فيعتمد خبره إذا كان ثقة وإن كان غير ثقة فهو على ما يقع في قلبه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قال صدقه بقوله وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يعرض لشيء من ذلك .

وكذلك إن كان لا رأي له فيما قال لأن الحاجز له عن التصرف ظاهر فلا يكون له أن يتصرف معه بمجرد خبره ما لم يترجح جانب الصدق فيه بنوع دليل ولم يوجد ذلك الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو عبدا فيما يخبر أنه أذن له في بيعه أو أن فلانا بعث معه إليه هدية أو صدقة فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه أن يصدقه وهذا للعادة الظاهرة في بعث الهدايا على أيدي المماليك والصبيان وفي [ ص: 175 ] التورع عنه من الحرج ما لا يخفى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يقبل شيئا لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين

التالي السابق


الخدمات العلمية