الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم الأصل بعد هذا أن التحري في الفروج لا يجوز بحال ، لأن التحري إنما يجوز فيما يحل تناوله عند الضرورة على ما قررنا ، أن استعمال التحري نوع ضرورة ، والفرج لا يحل بالضرورة ألا ترى أن المكره على الزنا لا يحل له الإقدام عليه ومن خاف الهلاك من فرط الشبق لا يحل له الإقدام على الوطء في غير الملك فلهذا لا يحل الفرج بالتحري بحال ، بخلاف جميع ما تقدم من الفصول إذا عرفنا هذا فنقول : رجل له أربع جوار أعتق واحدة منهن بعينها ثم نسيها لم يسعه أن يتحرى للوطء لأن المعتقة بعينها محرمة عليه فلا يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المحرمة بعينها وهذا لأن قيام الملك في المحل شرط منصوص للحل وبتحريه لا يصير هذا الشرط معلوما بيقين ، بخلاف ما إذا أعتق إحداهن بغير عينها فإن العتق في المنكر لا يزيل الملك عن المعين إلا بالبيان ، فكان له أن يطأ من شاء منهن باعتبار الملك المتيقن به في المحل ، وكما لا يتحرى للوطء هنا لا يتحرى للبيع لأن جواز البيع وإباحته شرعا لا يكون إلا باعتبار قيام الملك في المحل [ ص: 203 ] فإن الحرة ليست بمحل للبيع شرعا ولا يخلي الحاكم بينه وبينهن حتى يبين المعتقة من غيرها فإنه لا يسعه إلا ذلك لأنه علم أن إحداهن محرمة عليه فليس له أن يخلي بينه وبين المحرمة ليرتكب الحرام بوطئها فيحول بينه وبينهن حتى يبين المعتقة .

وكذلك إذا طلق إحدى نسائه بعينها ثلاثا ثم نسيها وهذا أبلغ من الأول لأن المطلقة ثلاثا محرمة العين لا تحل له بنكاح ولا غيره ما لم تتزوج بزوج آخر وكذلك إن متن كلهن إلا واحدة لم يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة بخلاف ما إذا أوقع الطلاق على إحداهن بغير عينها لأن بموت الثلاث هناك يتعين الطلاق في الرابعة وهنا الطلاق وقع على عين فلا يتحول بالموت من محل إلى محل فحال هذه التي بقيت بعد موت ضرائرها كحالها قبل موتهن لا يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة فإذا أخبر بذلك فقد أخبر بحلها وهذا أمر بينه وبين ربه فيصدق في ذلك مع اليمين ويستحلفه ما طلق هذه بعينها ثلاثا ثم يخلي بينهما أما إذا كانت تدعي هي الثلاث فغير مشكل وكذلك إن كانت لا تدعي ففي الحرمة معنى حق الشرع ألا ترى أن البينة تقبل فيه من غير دعوى فلهذا يستحلفه القاضي إذا اتهمه فإن حلف وهو جاهل بذلك فلا ينبغي له أن يقربها لأنه مجازف في يمينه واليمين الكاذبة لا تحل الحرام وإن ادعت كل واحدة منهن أنها المطلقة حلفه القاضي لكل واحدة منهن فإن نكل عن اليمين لهن فرق بينه وبينهن لأن النكول في حق كل واحدة منهن بمنزلة الإقرار وإن حلف لهن بقي حكم الحيلولة كما كان لأنا نتيقن أنه كاذب في بعض هذه الأيمان .

وروى ابن سماعة عن محمد - رحمهما الله تعالى - أنه قال : إذا حلف لثلاث منهن يتعين الطلاق في الرابعة ضرورة فيفرق بينه وبينها كما لو أخبر أنها هي المطلقة ولكن هذا لا يستقيم فيما إذا وقع على المعينة في الابتداء لأنه ليس إليه البيان إنما عليه أن يتذكر وذلك لا يحصل بيمينه لبعضهن بخلاف ما إذا كان الإيقاع على غير المعينة في الابتداء فإن باع في المسألة الأولى ثلاثا من الجواري فحكم الحاكم بجواز بيعهن وكان ذلك من رأيه وجعل الباقية هي المعتقة ثم رجع إليه مما باع شيء بشراء أو بهبة أو ميراث لم ينبغ له أن يطأها لأن القاضي في ذلك قضى بغير علم ولا معتبر للقضاء عن جهل ولأنا نعلم أنه مخطئ في قضائه لأنه حكم بجواز البيع في محل لا يعرف فيه الملك بيقين فيكون باطلا وأدنى الدرجات فيه أن يكون حكمه بجواز البيع في شخص متردد الحال بين الرق والحرية فلا ينفذ حكمه كما لو حكم بجواز [ ص: 204 ] بيع المكاتب بغير رضاه ولا ينبغي للمولى أن يطأ شيئا منهن بالملك إلا أن يتزوجها فإن تزوجها فلا بأس بوطئها لأنها إن كانت حرة فالنكاح بينه وبينها صحيح وإن كانت أمة فهي حلال له بالملك فهي إما زوجته أو أمته فله أن يقربها ولو أن قوما كان لكل واحد منهم جارية فأعتق أحدهم جاريته ثم لم يعرفوا المعتقة فلكل واحد منهم أن يطأ جاريته حتى يعلم المعتقة بعينها لأنا علمنا قيام الملك لكل واحد منهم في جاريته وحل وطئها له ولم نتيقن باكتساب سبب الحرمة من كل واحد منهم فله أن يتمسك بما يتيقن به لأن اليقين لا يزال بالشك بخلاف ما تقدم لأنا تيقنا هناك باكتساب سبب الحرمة من المولى في بعضهن فليس له الإقدام على الوطء ما لم يعلم أن الموطوءة خارجة عن تلك الحرمة .

وهذا لأن القضاء بالحرمة يصح على المعلوم دون المجهول ففي المسألة الأولى المقضي عليه المولى وهو معلوم فالجهالة في جانب الجواري لا يمنع القضاء بحرمة هي حق الشرع وهنا المقضي عليه بالحرمة من الموالي مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فلكل واحد منهم أن يتمسك في جاريته بالحل الذي تيقن به حتى يعلم خلافه فإن كان أكبر رأي أحدهم أنه هو الذي أعتق فأحب إلي أن لا يقربها وإن قرب لم يكن ذلك عليه حراما حتى يستيقن لأن أكبر الرأي يوجب الاحتياط ولا يزيل الملك والحرمة في هذا المحل باعتبار زوال الملك وذلك لا يثبت بأكبر الرأي ولو اشتراهن جميعا رجل واحد قد علم ذلك لم يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المعتقة أما إذا اشتراهن بعقد واحد فهذا البيع باطل لأن فيه الجمع بين الحرة والإماء وبيع الكل بثمن واحد .

وإن اشتراهن بعقود متفرقة فنقول : لما اجتمعن عنده وهو متيقن بأن إحداهن محرمة عليه كان هذا وما لو كان المولى في الابتداء واحدا سواء لأن المقضي عليه معلوم هنا ولو اشتراهن إلا واحدة حل له وطؤهن لأنه لا يتيقن بالحرمة فيما اشتري فلعل المعتقة تلك الواحدة التي لم يشترها فلا يصير المقضي عليه بالحرمة معلوما بهذا فإن وطئهن ثم اشترى الباقية لم يحل له وطء شيء منهن ولا بيعه حتى يعلم المعتقة منهن لأنه يعلم أن إحداهن محرمة عليه وليس لما سبق من الوطء تأثير في تمييز المعتقة من غير المعتقة لأنه لا طريق لذلك إلا التذكر والوطء ليس من التذكر في شيء وكذلك لو كان المشتري أحد أصحاب الجواري لأنهن قد اجتمعن عنده فصار المقضي عليه بالحرمة معلوما ثم أعاد المسألة الأولى لإيضاح ما بينا أن التحري لا يجوز في الفروج فقال : لو مات المولى بعدما أعتق واحدة منهن بعينها ونسيها فليس للقاضي أن يتحرى [ ص: 205 ] ولا يأمر الورثة بذلك أيضا في تعيين المعتقة حتى لا يقول لهم أعتقوا التي أكبر رأيكم أنها حرة وأعتقوا أيتهن شئتم وكيف يقول لهم ذلك والعتق الواقع على شخص بعينه لا يتصور انتقاله إلى شخص آخر بحال ولكنه يسألهم عن ذلك فإن زعموا أن الميت أعتق فلانة بعينها أعتقها واستحلفهم على علمهم في الباقيات لأنهم خلفاء المورث وخبرهم كخبر المورث أن المعتقة هذه إلا أن اليمين في حقهم على العلم لأنه استخلاف على فعل الغير فإن لم يعرفوا شيئا من ذلك أعتقهن جميعا وأبطل من قيمتهن قيمة واحدة بينهن بالحصص ويسعين فيما بقي لأنه تعذر استدامة الملك فيهن لحق الشرع فيخرجن إلى الحرية بالسعاية كأم ولد النصرانية أسلمت تخرج إلى الحرية بالسعاية إلا أنه يسقط عنهن ما يتيقن بسقوطه وهو قيمة واحدة

التالي السابق


الخدمات العلمية