الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، وأما ما وجب على المفسد من أمر أوجبه الله تعالى من زكاة ماله ، أو حجة الإسلام ، أو غير ذلك فهو ، والمصلح فيه سواء ; لأنه مخاطب ، وإن كان مفسدا ، وبسبب الفساد لا يستحق النظر في إسقاط شيء من حقوق الشرع عنه بمنزلة الفاسق الذي يقصر في أداء بعض الفرائض لا يستحق به التخفيف في حكم الخطاب ، وهذا بخلاف ما أوجبه على نفسه لا فيما يوجبه على نفسه بسبب التزامه ، فيمكن فيه معنى التبذير فيما يرجع إلى الدنيا ، وإن كان فيه معنى النظر له في الآخرة كما في مباشرة التصدق ، فأما فيما أوجب الله تعالى عليه ، فلا يتوهم معنى التبذير فهو ، والمصلح فيه سواء ، وينبغي للحاكم أن ينفذ له ما أوجب الله تعالى عليه من ذلك إذا طلبه من أداء زكاة ماله ولكن لا يدفع المال إليه ، ويخلي بينه وبينه ; لأنه يصرفه إلى شهوات نفسه ، ولكن لا يخلي بينه ، وبين ذلك حتى يعطيه المساكين بمحضر من أمينه ; لأن الواجب عليه الإيتاء ، وهو عبارة عن فعل هو عبادة ولا يحصل ذلك إلا بنيته ، فلهذا يدفع المال إليه ليعطيه المساكين من زكاته بمحضر من أمينه ، وكذلك إن طلب من القاضي مالا يصل به قرابته الذي يجبر على نفقتهم أجابه إلى ذلك ; لأن وجوب نفقتهم عليه يكون شرعا لا بسبب من جهته ، ولكن القاضي لا يدفع المال إليه بل يدفعه بنفسه إلى ذوي الرحم المحرم منه ; لأنه لا حاجة إلى فعله ونيته حتى أن من له الحق إذا ظفر بجنس حقه من ماله كان له أن يأخذه فكذلك القاضي يعينه على ذلك بالدفع إليه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يأخذ بقوله في ذلك حتى تقوم البينة على القرابة ، وعشرة القرائب ; لأن إقراره بذلك بمنزلة الإقرار له بدين على نفسه ، فلا يكون ملزما إياه شيئا إلا في الوالد ، فإنهما إذا تصادقا على النسب قبل قولهما فيه كل واحد منهما في تصديق صاحبه يقر على نفسه بالنسب وقد بينا أن السفه لا يؤثر في المنع من الإقرار بالنسب ; لأن ذلك من حوائجه ، ولكن لا يعتبر قوله في عسرة المقر له حتى يعرف أنه كذلك كما عسرة سائر الأقارب .

وكذلك يقبل إقراره بالزوجية ; لأنه يملك إنشاء التزوج فيملك الإقرار به ، ويجب لها مقدار مهر مثلها ويعطيها القاضي ذلك ; لأن وجوب ذلك حكما لصحة النكاح ، وإن كان قد مضى بعد إقراره أشهر ، ثم أقر أنه كان فرض عليه نفقة في أول تلك الشهور لم يصدق على ما مضى من ذلك ; لأن هذا منه إقرار بالدين لها ، فإن نفقته لزوجة في الزمان الماضي لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي ، وإقراره لها بالدين باطل ، وإن أراد أن يحج حجة الإسلام لم يمنع منها ; لأنها تلزمه شرعا من غير صنع من جهته ، فلا يتوهم معنى التبذير فيه [ ص: 172 ] ثم لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا ، ويعطى ما يحتاج إليه كالزاد والراحلة ; لأن ذلك من أصول حوائجه ، وإن أراد عمرة واحدة لم يمنع منها أيضا استحسانا ، وفي القياس لا يعطى نفقة السفر لذلك ; لأن العمرة عندنا تطوع كما لو أراد الخروج للحج تطوعا بعد ما حج حجة الإسلام ، ولكنه استحسن لاختلاف العلماء في ، فريضة العمرة ، وتعارض الأخبار في ذلك ، ولظاهر قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } ، فهذا منه أخذ بالاحتياط في أمر الدين وهو من جملة النظر له ليس من التبذير في شيء .

وإن أراد أن يقرن عمرة وحجا ، وسوق بدنة لم يمنع من ذلك ; لأن القران فضل عندنا ، وإذا لم يكن هو ممنوعا من إنشاء سفر لأداء كل واحد من النسكين ، فلأن لا يمنع من الجمع بينهما في سفر أولى ، ثم القارن يلزمه هدي ، ويجزيه فيه الشاة عندنا ، ولكن البدنة فيه أفضل ، وقد اختلف العلماء من السلف في ذلك ، فكان ابن عمر رضي الله عنه يقول : لا يجزيه إلا بقرة ، أو جزور ، فهو حين ساق البدنة قد قصد به التحرز عن موضع الخلاف ، وأخذ بالاحتياط في أمر الدين ، وأراد أن يكون فعله أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن في سوق البدنة من معنى الفساد شيء ، فإن أراد الخروج لأداء ذلك نظر الحاكم إلى ثقة من يريد الخروج إلى مكة ، فيدفع إليه ما يكفي المحجور عليه للكراء ، والنفقة ، والهدي فيلي ذلك الرجل النفقة عليه ، وما أراد من الهدي وغيره بأمر المحجور عليه ، ولا يدفع إلى المحجور عليه شيئا من ذلك المال مخافة أن يتلفه في شهوات نفسه ، ثم يقول ضاع مني ، فأعطوني مثله ، وهذا ; لأنه في حالة الحضر كان ماله في يد وليه ينفق عليه منه بحسب حاجته ، وإذا ولاه القاضي ذلك كان هو بمنزلة ، وليه في الهدي ولا بد من اعتبار أمره ونيته لمعنى القربة فإما أن يباشره ، أولى بأمره ، أو يدفع إليه ليباشر بحضرته ما يحق عليه مباشرته ، فإن اصطاد في إحرامه صيدا ، أو حلق رأسه من أذى أو صنع شيئا يجب فيه الصوم أمره بأن يصوم لذلك ، ولم يعط من ماله لما صنع شيئا ; لأن وجوب هذا بسبب من جهته ، وأصل ذلك السبب جناية ، فلا يستحق باعتبار النظر فيؤمر بالصوم لذلك حتى يكون ذلك زجرا عن السفه .

فإن رأى الحاكم أن يأمر الرجل إن ابتلي بأذى في رأسه ، أو أصابه وجع احتاج فيه إلى لبس قميص ، أو غير ذلك أن يذبح عنه ، أو يتصدق لم يكن بهذا بأس ; لأن هذا من النظر له عند حاجته ولهذا جوز الشرع ذلك للمضطر ، فلا بأس بأن ينظر القاضي له في ذلك فيأمره بالأداء من ماله عند حاجته ، ولكن لا يفعله الوكيل إلا بأمر المحجور عليه لمعنى القربة فيه ، فإن الولاية الثابتة عليه لوليه لم تكن باختياره ، والعبادة [ ص: 173 ] لا تتأدى بمثل هذه الولاية ، فلا بد من أمره ونيته لتحقيق معنى القربة ، وإن تطيب المحجور في إحرامه بطيب كثير ، أو قبل للشهوة أو صنع ما يلزمه فيه الدم ، أو الطعام مما لا يجوز فيه الصوم ، فهذا لازم له يؤدى إذا صار مصلحا ولا يؤدى عنه في حال فساده ، وأنه لزمه ; لأنه مخاطب ، ولكن سبب هذا الالتزام منه ، فلا يؤدى من ماله في حال فساده بل يتأخر إلى أن يصير مصلحا بمنزلة المعسر الذي لا يجد شيئا إذا صنع ذلك ، أو هو بمنزلة العبد المأذون في الإحرام من جهة مولاه إذا ، فعل شيئا من ذلك ، وهذا ; لأنه لو أدى عنه الحاكم هذا فعله في كل يوم مرة فيفنى ماله فيه .

وكذلك لو جامع امرأته بعد ما وقف بعرفة ، فعليه بدنة يتأخر إلى أن يصير مصلحا ، وإن جامعها قبل أن يقف بعرفة لم يمنع نفقة المضي في إحرامه إلى ذلك ; لأنه يحتاج إلى ذلك التحلل من الإحرام ولا يمنع نفقة العود من عام قابل للقضاء ; لأن ذلك لازم عليه شرعا ويمنع من الكفارة ; لأن وجوب ذلك بسبب من جهته وفي هذا السبب من الفساد ما لا يخفى ، والعمرة في هذا كالحج .

( ألا ترى ) أن المرأة ليس لها أن تحج غير حجة الإسلام إلا بإذن زوجها ، فإذا خرجت لحجة الإسلام ، ثم جومعت في إحرامها مطاوعة ، أو مكرهة مضت في الحج الفاسد ، ولم تمنع من العود للقضاء مع المحرم ، فإذا كانت لا تمنع هي لحق الزوج لم يمنع المحجور من ذلك أيضا لأجل الحجر .

ولو أن هذا المحجور عليه قضى حجة الإسلام إلا طواف الزيارة ، ثم رجع إلى أهله ، ولم يطف طواف الصدر ، فإنه يطلق له نفقة الرجوع للطواف ويصنع في الرجوع مثل ما يصنع في ابتداء الحج ; لأنه محرم على النساء ما لم يطف للزيارة ، فالرجوع للطواف من أصول حوائجه ; لأنه محتاج إليه للتحلل ، ولكن يأمر الذي يلي النفقة عليه أن لا ينفق عليه راجعا حتى يحضره ، ويطوف بالبيت ; لأنه لسفهه ربما يرجع ولا يطوف ، ثم يطلب النفقة مرة أخرى ، وهكذا يفعل ذلك في كل مرة حتى يفنى ماله ، فللزجر عن ذلك لا ينفق عليه راجعا حتى يطوف بالبيت بحضرته ، وإن طاف جنبا ، ثم رجع إلى أهله لم يطلق له نفقة الرجوع للطواف ; لأنه تحلل للطواف مع الجنابة ، ولكن عليه بدنة لطواف الزيارة ، وشاة لطواف الصدر يؤديهما إذا صلح ; لأن وجوبهما كان بسبب من جهته ، وذلك السبب من الغشيان يعني طواف الزيارة جنبا وترك طواف الصدر من غير عذر ، وإن أحصر في حجة الإسلام ، فإنه ينبغي للذي أعطى نفقته أن يبعث بهدي ، فيحل به لما بينا أن التحلل بالهدي من أصول حوائجه وماله معد لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية