الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه ) وهذا أفضل { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدايا مع نفسه } ; ولأن فيه استعدادا ومسارعة ( فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل ) لحديث عائشة رضي الله عنها على ما رويناه . والتقليد أولى من التجليل ; لأن له ذكرا في الكتاب ولأنه للإعلام والتجليل للزينة ، ويلبي ثم يقلد ; لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق . والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ويسوق الهدي . وهو أفضل من أن يقودها { ; لأنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 8 ] أحرم بذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه } ; ولأنه أبلغ في التشهير إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها . قال ( وأشعر البدنة عند أبي يوسف ومحمد ) رحمهما الله ( ولا يشعر عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( ويكره ) والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة ( وصفته أن يشق سنامها ) بأن يطعن في أسفل السنام ( من الجانب الأيمن أو الأيسر ) قالوا : والأشبه هو الأيسر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم طعن في جانب اليسار مقصودا وفي جانب الأيمن اتفاقا ، ويلطخ سنامها بالدم إعلاما ، وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حسن ، وعند الشافعي رحمه الله سنة ; لأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .

ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء أو كلأ أو يرد إذا ضل وإنه في الإشعار أتم ; لأنه ألزم ، فمن هذا الوجه يكون سنة ، إلا أنه [ ص: 9 ] عارضه جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه ولأبي حنيفة أنه مثلة وأنه منهي عنه .

ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم وإشعار النبي صلى الله عليه وسلم كان لصيانة الهدي ; لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به . وقيل : إن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية ، وقيل : إنما كره إيثاره على التقليد .

التالي السابق


( قوله : إلا إذا كانت لا تنقاد ) أي للسوق ، وفي بعض النسخ لا تنساق ( قوله : لأن النبي صلى الله عليه وسلم طعن إلخ ) قالوا : لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من قبل رءوسها ، والحربة بيمينه لا محالة ، والطعن حينئذ إلى جهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودا ثم يعطف طاعنا إلى جهة يمينه بيمينه وهو متكلف بخلافه إلى الجهة الأولى ، وهذا بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أشعر من جهة اليمين واليسار ، وعلى أن صفته حالة الإشعار كان ما ذكر .

فأما الأول فالذي في مسلم عن أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما { أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن } وروى البخاري الإشعار ، فلم يذكر فيه الأيمن ولا الأيسر إلا أن ابن عبد البر ذكر أنه رأى في كتاب ابن علية بسنده إلى أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما { أنه عليه الصلاة والسلام أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين } قال ابن عبد البر : هذا منكر من حديث ابن عباس ، بل المعروف ما رواه مسلم وغيره عنه في الجانب الأيمن ، وصحح ابن القطان كلامه ، لكن قد أسند أبو يعلى إلى أبي حسان عن ابن عباس بطريق آخر { أنه عليه الصلاة والسلام أشعر بدنه في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه } الحديث .

وفي موطإ مالك عن نافع " أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أهدى هديا من المدينة يقلده بنعلين ويشعره في الشق الأيسر " فهذا يعارض ما في مسلم من حديث ابن عباس إذ لم يكن أحد أشد اقتفاء لظواهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عمر ، فلولا علمه وقوع ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم لم يستمر عليه . فوجه التوفيق حينئذ هو ما صرنا إليه من الإشعار فيهما حملا للروايتين على رؤية كل راء الإشعار من جانب وهو واجب ما أمكن . وأما الثاني فلا نعلم صريحا في وصفه كيف كان لكنه حمل على ما هو الظاهر ، إذ الظاهر من قاصدها لإثبات فعل فيها ، وهي تساق إليه ذلك ، والله أعلم بجلية كل حال .

( قوله : لأنه ألزم ) [ ص: 9 ] لأن القلادة قد تنحل أو تنقطع فتسقط ( قوله : ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم ) قد يقال : لا تعارض فإن النهى عنه كان بأثر قصة العرنيين عقيب غزوة أحد ومعلوم أن الإشعار كان بعده ، فعلم أنه إما مخصوص من نص نسخ المثلة ما كان هديا أو أنه ليس بمثلة أصلا ، وهو الحق ، إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذنين وسمل العيون ، فلا يقال لكل من جرح مثل به ، والأولى ما حمل عليه الطحاوي من أن أبا حنيفة إنما كره إشعار أهل زمانه ; لأنهم لا يهتدون إلى إحسانه ، وهو شق مجرد الجلد ليدمي ، بل يبالغون في اللحم حتى يكثر الألم ويخاف منه السراية .

( قوله : لأن المشركين لا يمتنعون إلا به ) قد يقال : هذا يتم في إشعار عام الحديبية وهو مفرد بالعمرة لا في إشعاره هدايا حجة الوداع { ; لأن المشركين كانوا قد أجلوا قبل ذلك في فتح مكة في الثامنة ، ثم بعث عليا رضي الله عنه في التاسعة يتلو عليهم سورة براءة وينادي : لا يطوف بهذا البيت مشرك ولا عريان } . والجواب أن يراد تعرضهم للطريق حال السفر لتسامعهم بمال لسيد المسلمين




الخدمات العلمية