الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها ) وقال الشافعي رحمه الله : يحل ما ذبحه المحرم لغيره ; لأنه عامل له فانتقل فعله إليه . ولنا أن الذكاة فعل مشروع وهذا فعل حرام فلا يكون ذكاة كذبيحة [ ص: 91 ] المجوسي ; وهذا لأن المشروع هو الذي قام مقام الميز بين الدم واللحم تيسيرا فينعدم بانعدامه [ ص: 92 ] ( فإن أكل المحرم الذابح من ذلك شيئا فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة ) رحمه الله تعالى ( وقالا : ليس عليه جزاء ما أكل ، وإن أكل منه محرم آخر فلا شيء عليه في قولهم جميعا ) لهما أن هذه ميتة فلا يلزم بأكلها إلا الاستغفار وصار كما إذا أكله محرم غيره . ولأبي حنيفة رحمه الله أن حرمته باعتبار كونه ميتة كما ذكرنا ، وباعتبار أنه محظور إحرامه ; لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية في حق الذكاة فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط مضافة إلى إحرامه بخلاف محرم آخر ; لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه .

التالي السابق


. ( قوله : لأنه عامل لغيره ) يقتضي ظاهرا أن اللام في لغيره يتعلق بذبحه لا بيحل ، ولفظ المبسوط وقال الشافعي : لا يحل للمحرم القاتل ويحل لغيره من الناس يقتضي تعلقه بيحل ، وهو الحق عن الشافعي وهو أحد قوليه . ويمكن توجيه التعليل على هذا الاعتبار بأنه لما لم يحل للقاتل وحل لغيره لم ينزله الشرع عاملا لنفسه بل لغيره فصار عاملا لغيره شرعا وإن لم يقصد هو ذلك فانتقل فعله إليهم فحل لهم سواء ذبح لأجلهم أو لنفسه [ ص: 91 ] قوله : وهذا لأن المشروع إلخ ) حاصله إثبات الملازمة بين المشروعية والإقامة مقام الميز ، ثم نفي الثاني فينتفي الأول : أعني المشروعية وهو المفاد بقوله فينعدم المشروع لانعدامه : أي لانعدام الفعل الذي أقيم ، ونحن إلى غير هذا الكلام أحوج في إثبات المطلوب .

فإن حاصل هذا إثبات المقدمة القائلة وهذا فعل حرام ، وهي إن كانت من المسلمات بيننا وبين الشافعي لم يحتج إليه ، وإن كانت ممنوعة عنده لا ينتهض المذكور مثبتا لها عليه ، فإنه إذا منع الحرمة منع عدم الإقامة مقام الميز لكنها مسلمة ، ونحن نحتاج بعد تسليم حرمة الفعل إلى أمر زائد ، فإن مجرد حرمته لا يوجب حرمة اللحم مطلقا ، كما لو ذبح شاة الغير لا بإذنه لا يصير لها حكم الميتة مع حرمة الفعل فيقال : وهذا فعل حسي محرم فيكون ذلك لقبح اعتبر في عينه على ما هو الأصل عندنا في إضافة التحريم إلى الأفعال الحسية أنه يضاف القبح إلى عينها ; لعدم المانع بخلاف الشرعية إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك كما في ذبح شاة الغير ، ونعني بثبوت القبح لذاته مع أنه إنما ذبح لغرض صحيح هو أن يأكله كون الشرع اعتبره قبيحا لعينه ; لأنه جعله عبثا حيث أخرج الذابح عن الأهلية والمذبوح عن المحلية فصار فعلا في غير محله فكان عبثا باعتبار الشارع ، كما لو اشتغل عاقل بذبح حجر ونحوه فإنه يعد جنونا أو سخرية ، بخلاف شاة الغير فإنه لم يثبت إخراجها عن محلية الذبح شرعا للأجنبي وإخراجه عن الأهلية بالنسبة إليها فلم يعد عبثا شرعا .

وإذا صار ذبح المحرم عبثا شرعا صار قبيحا لعينه فلا يفيد حكم الحل فيما كان محرم الأكل : أعني الصيد قبل ذبحه . بقي دليل الإخراجين ، وذلك أن قوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } يفيدهما وقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يفيد إخراج المحرم عن أهلية الذبح فقط ; وهذا لأن الأول أضاف التحريم إلى العين وهي تفيد المبالغة ، فإن الأصل أن تضاف الأحكام إلى أفعال المكلفين ، فإذا أضيفت إلى العين كان إخراجا له عن محلية الفعل الذي هو متعلق الحرمة بالأصالة ، فإنه جعل نفس هذا العين حراما ونفس الحرام لا يقترب منه فكان منعا عن الاقتراب منه نفسه ، وهذا إخراجه عن المحلية .

ولو قلنا إن إضافته إلى العين يجب أن تكون مجازا عقليا لم يضرنا ، إذ العدول عن إضافته إلى الفعل إلى إضافته إلى نفس العين سببه ما قلنا . وأفاد الثاني أن التحريم بمعنى من جهة الذابح وهو الإحرام فأوجب إخراجه عن الأهلية ، والإحرام هو السبب في الأمرين معا على التحقيق فلذا قال في المسألة التي تلي هذه ; لأن الإحرام هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح [ ص: 92 ] عن الأهلية ( قوله فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة ) يعني سواء أدى ضمان المذبوح قبل الأكل أو لا ، غير أنه إن أدى قبله ضمن ما أكل على حدته بالغا ما بلغ ، وإن كان أكل قبله دخل ضمان ما أكل في ضمان الصيد فلا يجب له شيء بانفراده .

وقال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي : لا رواية في هذه المسألة ، فيجوز أن يقال : يلزمه جزاء آخر ، ويجوز أن يقال : يتداخلان ، وسواء تولى صيده بنفسه أو أمر غيره أو أرسل كلبه .

ولا فرق بين أن يأكل المحرم أو يطعم كلابه في لزوم قيمة ما أطعم ; لأنه انتفع بمحظور إحرامه ( قوله فصارت حرمة التناول إلخ ) يعني أن حرمة التناول بواسطة أنه ميتة وكونه ميتة بواسطة خروجه عن الأهلية والصيد عن المحلية وثبوتهما معا بواسطة الإحرام ، فكان الأكل من محظورات إحرامه بواسطة ، وسبب السبب سبب خصوصا وهذه حرمة يحتاط في إثباتها لما تقدم من شرع الكفارة مع العذر فيجب به الجزاء ، وبهذا التعليل استغنى الشيخ عن إيراد الفرق بين هذا ، وبين ما لو أكل الحلال من لحم ذبحه من صيد الحرم بعد أداء قيمته ; لأن الأكل ليس من محظورات الحرم بل تفويته الأمن الذي استحقه بحلوله في الحرم فقط وقد ضمنه إذ فوته فكان حرمته لكونه ميتة فقط . وعن هذا ما في خزانة الأكمل : لو شوى المحرم بيض صيد فعليه جزاؤه وللحلال أكله ، ويكره بيعه قبل ذلك ، فإن باعه جاز ويجعل ثمنه في الفداء إن شاء ، وكذا شجر الحرم واللبن ، وكذا لو شوى جرادا أو بيضا ضمنه ، ثم إن أكله لا جزاء عليه ولا يحرم بخلاف الصيد .




الخدمات العلمية