الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والعمرة لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها ، [ ص: 137 ] وهي يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ) لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة ; ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينة له . وعن أبي يوسف رحمه الله : أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال ; لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ، والأظهر من المذهب ما ذكرناه ، ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها ; لأن الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له [ ص: 138 - 139 ] فيصح الشروع .

التالي السابق


. ( قوله : لما روي عن عائشة ) أخرج البيهقي عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة قالت . حلت العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويومان بعد ذلك ا هـ .

وهو يشير إلى أن الكراهة كراهة تحريم وفي كلام المصنف ما يفيده . وقال الشيخ تقي الدين في الإمام : روى إسماعيل بن عياش عن إبراهيم ونافع عن طاوس قال : قال البحر يعني ابن عباس : خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، والثلاثة أيام التشريق اعتمر قبلها أو بعدها ما شئت . ا هـ . هذا وأما أفضل أوقاتها فرمضان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { عمرة في رمضان تعدل حجة } وفي طريق ; لمسلم { تقضى حجة أو حجة معي } وفي رواية ; لأبي داود { تعدل حجة معي } من غير شك . وكان السلف رحمهم الله يسمونها الحج الأصغر .

هذا وقد قدمنا في أوائل كتاب الحج الوعد بعدد عمراته عليه الصلاة والسلام فنقول : قد { اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمرات كلهن بعد الهجرة } ، ولم يعتمر مدة مقامه بمكة بعد النبوة شيئا ، وذلك ثلاث عشرة سنة وعن هذا ادعى من ادعى أن السنة في العمرة أن تفعل داخلا إلى مكة لا خارجا ، بأن يخرج المقيم بمكة إلى الحل فيعتمر كما يفعل اليوم ، وإن لم يكن ذلك ممنوعا ; ثم المراد بالأربعة ، إحرامه بهن ، فأما ما تم له منها فثلاث ، ولهذا قال البراء بن عازب : { اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل أن يحج فلم يحتسب بعمرة الحديبية } ، كذا في الصحيحين وكلهن في ذي القعدة على ما هو الحق .

[ الأولى ] عمرة الحديبية سنة ست فصد بها فنحر الهدي بها وحلق هو وأصحابه ورجع إلى المدينة . [ الثانية ] عمرة القضاء في العام المقبل ، وهي قضاء عن الحديبية ، هذا مذهب أبي حنيفة ، وذهب مالك إلى [ ص: 138 ] أنها مستأنفة لا قضاء عنها ، وتسمية الصحابة وجميع السلف إياها بعمرة القضاء ظاهر في خلافه ، وتسمية بعضهم إياها عمرة القضية لا ينفيه ، فإنه اتفق في الأولى مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أن يأتي من العام المقبل فيدخل مكة بعمرة ويقيم بها ثلاثا ، وهذا الأمر قضية تصح إضافة هذه العمرة إليها ، فإنها عمرة كانت عن تلك القضية فهي قضاء عن تلك القضية فتصح إضافتها إلى كل منهما فلا تستلزم الإضافة إلى القضية نفي القضاء ، والإضافة إلى القضاء يفيد ثبوته فيثبت مفيد ثبوته بلا معارض .

وأيضا فالحكم الثابت فيمن شرع في إحرام بنسك فلم يتمه لإحصار فحل أن يقضي وهذه تحتمل القضاء فوجب حملها عليه ، وعدم نقل أنه عليه الصلاة والسلام أمر الذين كانوا معه بالقضاء لا يفيد ذلك ، بل المفيد له نقل العدم لا عدم النقل . نعم هو مما يؤنس به في عدم الوقوع ; لأن الظاهر أنه لو كان لنقل ، لكن ذلك إنما يعتبر لو لم يكن من الثابت ما يوجب القضاء في مثله على العموم فيجب الحكم بعلمهم به وقضائها من غير تعيين طريق علمهم . [ الثالثة ] عمرته التي قرنها مع حجته على ما أسلفنا إثباته من أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا أو التي تمتع بها إلى الحج على قول القائلين بأنه حج متمتعا ، أو التي اعتمرها في سفره ذلك على قول القائلين بأنه أفرد واعتمر ، ولا عبرة بقول الرابع .

[ الرابعة ] عمرته من الجعرانة لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين ودخل بهذه العمرة إلى مكة ليلا وخرج منها ليلا إلى الجعرانة فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج في بطن سرف حتى جامع في الطريق ، ومن ثمة خفيت هذه العمرة على كثير من الناس . وأما أنهن كلهن في ذي القعدة فلما ثبت عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم { لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة } . وأما ما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : { اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته } : عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته فلا ينافيه ; لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة وفعلها كان في ذي الحجة فصح طريقا الإثبات والنفي .

وأما قول ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب ، فقد قالت عائشة لما بلغها ذلك : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب قط . وأما ما رواه الدارقطني عن عائشة { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان } فقد حكم الحفاظ بغلط هذا الحديث ، إذ لا خلاف أن عمره كلها لم تزد عن أربع ، وقد عينها أنس وعدها وليس فيما ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته ، وقد جمع بما ذكرناه من الوجه الصحيح ، فلو كانت له عمرة في رجب وأخرى في رمضان لكانت ستا ، ولو كانت أخرى في شوال كما هو في سنن أبي داود عن عائشة { أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال كانت سبعا } . والحق في ذلك أن ما أمكن الجمع فيه وجب ارتكابه دفعا للمعارضة ، وما لم يمكن الجمع فيه حكم بمقتضى الأصح والأثبت ، وهذا أيضا يمكن فيه الجمع بإرادة عمرة الجعرانة فإنه خرج إلى حنين في شوال والإحرام بها في ذي القعدة فكان [ ص: 139 ] مجازا ; للقرب ، هذا إن صح وحفظ ، وإلا فالمعول عليه الثابت ، والله أعلم .

ولما ثبت أن عمره صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان ، ففي رمضان ما قدمناه مما يدل على الأفضلية ، ولكن فعله لما لم يقع إلا في أشهر الحج كان ظاهرا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل ، أو أن رمضان أفضل بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على ذلك . وتركه لذلك ; لاقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا وألا يشق على أمته ، فإنه لو اعتمر فيه لخرجوا معه ولقد كان بهم رحيما ، وقد أخبر في بعض العبادات أن تركه لها ; لئلا يشق عليهم مع محبته له كالقيام في رمضان بهم ومحبته لأن يسقي بنفسه مع سقاة زمزم ثم تركه كي لا يغلبهم الناس على سقايتهم ، ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام في السنة إلا مرة . وما ظنه بعضهم من حديث في أبي داود عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال } وليس المراد ذكر جميع ما اعتمر عليه الصلاة والسلام ; للعلم بأنه اعتمر أكثر ، فكان المراد ذكر أنه وقع له ذلك في سنة يجب أن يحكم فيه بالغلط ، فإنه قد تظافر قول عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم على أنها أربع ، ومعلوم أن الأولى كانت في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست ، ثم لم يعتمر إلا من قابل سنة سبع سوى التي في ذي القعدة عمرة القضاء ، ثم لم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ولم يعتمر في دخوله في الفتح ، ثم أخرج إلى حنين في شوال من تلك السنة ثم رجع منها فأحرم بعمرة في ذي القعدة ، فمتى اعتمر في شوال ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم ، ولا علم إلا ما علم .




الخدمات العلمية