الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة ) وقال الشافعي رحمه الله : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج لأن التمليك ليس حقيقة فيه ولا مجازا عنه لأن التزويج للتلفيق والنكاح للضم ، ولا ضم ولا ازدواج بين المالك [ ص: 194 ] والمملوكة أصلا . ولنا أن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز .

التالي السابق


( قوله وينعقد إلخ ) حاصل الألفاظ المذكورة هنا أربعة أقسام : قسم لا خلاف في الانعقاد به في المذهب بل الخلاف فيه من خارج المذهب . وقسم فيه خلاف في المذهب والصحيح الانعقاد . وقسم فيه خلاف والصحيح عدم الانعقاد . وقسم لا خلاف في عدم الانعقاد به . والأوجه أن ترتب على هذا الترتيب ليلي كل قسم ما هو أقرب إليه ، وهكذا فعل المصنف إلا في لفظ الوصية .

[ القسم الأول ] ما سوى لفظي النكاح والتزويج من لفظ الهبة والصدقة والتمليك والجعل نحو جعلت بنتي لك بألف خلافا للشافعي ، وجوازه عندنا بطريق المجاز ، فإن المجاز كما يجري في الألفاظ اللغوية يجري في الألفاظ الشرعية بلا خلاف ، وإنما الكلام في تحقق طريقه هنا فنفاه الشافعي بناء على انتفاء ما يجوز التجوز . أما إجمالا فإنه لو وجد لصح أن يتجوز بلفظ كل منهما عن الآخر فكان يقال أنكحتك هذا الثوب مرادا به ملكتك ، كما يقال ملكتك نفسي أو بنتي مرادا به أنكحتك ، وليس فليس .

وأما تفصيلا فلأن التزويج هو التلفيق وضعا والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة ولذا يفسد النكاح عند ورود ملك أحد الزوجين على الآخر ولو كان لم ينافه تأكد به ، وإن صح هذا الوجه عنه كان معترفا بأنه لغة على خلاف ما تقدم نقله عنه من أنه [ ص: 194 ] العقد إلا أن يعني فيما تقدم أنه في لسان الشرع بناء على النقل ( ولنا أن التمليك ) أي معناه الحقيقي ( سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ) كونه سبب ( ملك الرقبة و ) ملك المتعة في محلها ( هو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز ) وأما عدم جواز استعارة النكاح للتمليك فليس لعدم المشترك بل لما فرغ منه في الأصول من أنه لا يجوز استعارة اسم المسبب للسبب عندنا إلا إذا كان المقصود من شرعية السبب شرعيته كالبيع لملك الرقبة ، وليس ملك المتعة الذي هو موجب النكاح هو المقصود من التمليك بل ملك الرقبة .

والجواب عن الثاني منع أنه لا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة . وقوله ولذا يفسد النكاح إلخ . قلنا : فساده للزوم المنافاة بين كون أحدهما مالكا لكل الآخر ، وكون ذلك الآخر مالكا بحكم الزوجية لبعض ما يملكه عليه ذلك الآخر بحكم ملك الرقبة على ما نبين إن شاء الله تعالى في فصل المحرمات لا لعدم الضم والازدواج . وللشافعي أيضا أنه كما خص النكاح باشتراط الشهادة إظهارا لخطره خص باللفظين النكاح والتزويج ولذا لم يرد غيرهما شرعا .

والجواب منعها ، بل قد ورد بلفظ الهبة فلم يختص ، قال الله تعالى { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } عطفا على المحللات في قوله تعالى { إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها وقوله تعالى { خالصة لك من دون المؤمنين } يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج ، فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين . أما هم فقد علمنا ما فرضناه عليهم في أزواجهم من المهر وغيره ، وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له لإفادة عدم حلهن لغيره صلى الله عليه وسلم . وله أيضا أن الشهادة شرط في النكاح ، والكناية لا بد فيها من النية ولا اطلاع للشهود عليها .

قال في شرح الكنز : قلنا ليست شرطا مع ذكر المهر . وذكر السرخسي أنها ليست بشرط مطلقا لعدم اللبس كقولهم للشجاع أسد ، وكما إذا حلف لا يأكل من هذه النخلة فإنه ينصرف إلى المجاز من غير نية ولأن كلامنا فيما إذا صرحا به ولم يبق احتمال ا هـ .

ويشكل بأن الحكم بالمجاز يستدعي أمرين : أحدهما انتفاء قرينة تدل على إرادة غير ذلك المعنى المجازي ، ولذا لو طلب الزنا من امرأة فقالت وهبت نفسي منك أو آجرت نفسي منك وقبل لا ينعقد .

والآخر وجود قرينة تفيد إرادة المعنى المجازي ، ولذا لو قال أبو البنت وهبت بنتي منك لتخدمك وقبل لا ينعقد هذا [ ص: 195 ] في الحكم به ، أما في جواز التجوز فقط فالشرط مع الأول الإرادة لا قرينتها ، وذلك لأن اعتبار ثبوت معنى بعينه عند استعمال لفظ معين ليس لذات ذلك اللفظ لأن نسبته إليه كنسبته إلى غيره ، فالمخصص لمعنى معين دون غيره ليس إلا علاقة وضعه له أو إرادة ما بينه وبين ما وضع له معنى مشترك ثبت اعتبار نوعه عن الواضع في الاستعمال فيه فالإرادة لازمة في المحلين ، غير أن الحكم من السامع بإرادة المتكلم المعنى الحقيقي لا يفتقر إلى نصب قرينة تفيد إرادته بل يكفي عدم قرينة تصرف عنه ، وهذا ما يقال الكلام لحقيقته ما لم يقم الدليل على مجازه ، بخلاف حكمه بإرادة ما لم يوضع له حيث يفتقر إلى دليل إرادته ، فإن لم يكن فلا بد من علم الشهود بمراده بأن أعلمهم به ، ولذا قال في الدراية في تصوير الانعقاد بلفظ الإجارة عند من يجيزه أو لا يجيزه أن يقول آجرت بنتي ونوى به النكاح وأعلم به الشهود ا هـ .

بخلاف ما إذا قال بعتك بنتي بحضرة الشهود فإن عدم قبول المحل للمعنى الحقيقي وهو البيع للحرية يوجب الحمل على المجازي فهو القرينة فيكتفي بها الشهود حتى لو كان المعقود عليها أمة احتيج إلى قرينة زائدة .

في البدائع : لو قال لرجل وهبت أمتي منك ، فإن كان الحال يدل على النكاح من إحضار الشهود وتسمية المهر مؤجلا أو معجلا ينصرف إلى النكاح ; وإن لم يكن الحال يدل على النكاح ، فإن نوى وصدقه الموهوب له فكذلك ، وإن لم ينو ينصرف إلى ملك الرقبة ا هـ .

والظاهر أنه إذا لم يدل الحال فلا بد مع النية من إعلام الشهود كما قدمناه لأنه لا بد من فهمهما المراد على المختار على ما سنذكره .

وقد رجع شمس الأئمة إلى التحقيق حيث قال : ولأن كلامنا فيما إذا صرحا به ولم يبق احتمال ولا يخفى عدم المناسبة بين ما علل به من عدم اللبس وحكمه وهو عدم اشتراط النية ، إذ عدم اللبس إنما يصلح لتعليل دعوى ظهورها وفهمها . وأما الحالف لا يأكل من هذه النخلة فمحكوم عليه بإرادة المجازي نظرا إلى تعذر الحقيقي وكونه متكلما واعيا .

وأما الهازل فمريد لمعنى اللفظ غير مريد لحكمه فلا يلتفت لقصده عدم الحكم . نعم قد يقال في عقد الملجإ يتعين لفظ الحقيقة بناء على كون الإلجاء قرينة تصرف عن إرادة المعنى المجازي إذ غرضه ليس إلا التخلص وذلك بإجراء اللفظ فقط ، أو مريدا حقيقته للتخلص وهي متعذرة إذ لا تصح هبة الحرة وبيعها .

والذي أقيم مقام المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة } هو الحقيقة دون المجاز . والله أعلم .

وأورد كيف ينعقد بالهبة وبه تقع الفرقة إذا نوى به الطلاق وهو سؤال ساقط . أما أولا فهو مشترك الإلزام إذ يلزم مثله في التزوج فإنه يقع به الفرقة إذا نوى بقوله تزوجي .

والحق أن الهبة فيها علاقة السببية للملك فيتجوز بها ، غير أنه إذا أضاف الملك المتجوز عنه بالهبة إليها نفسها بقوله وهبت نفسك لك صح طلاقا ، وإن أضافه إلى الرجل صح نكاحا . فظهر أن اختلاف الموجب في هذا اللفظ الواحد ليس إلا لاختلاف الإضافة بل بنفس توجيه السؤال يظهر صحة استعارتها للملك المغاير لملك الرقبة إذ لم يجئ الطلاق إلا باعتبار استعارتها له .




الخدمات العلمية