الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء ثم طلقها فلها كمال المهر ) وقال الشافعي : لها نصف المهر ; لأن المعقود عليه إنما يصير مستوفى بالوطء فلا يتأكد المهر دونه [ ص: 332 ] ولنا أنها سلمت المبدل حيث رفعت الموانع وذلك وسعها فيتأكد حقها في البدل اعتبارا بالبيع ( وإن كان أحدهما مريضا أو صائما في رمضان أو محرما بحج فرض أو نفل أو بعمرة أو كانت حائضا فليست الخلوة صحيحة ) [ ص: 333 ] حتى لو طلقها كان لها نصف المهر ; لأن هذه الأشياء موانع ، أما المرض فالمراد منه ما يمنع الجماع أو يلحقه به ضرر ، وقيل مرضه لا يعرى عن تكسر وفتور ، وهذا التفصيل في مرضها وصوم رمضان لما يلزمه من القضاء والكفارة ، والإحرام لما يلزمه من الدم وفساد النسك والقضاء ، والحيض مانع طبعا وشرعا ( وإن كان أحدهما صائما تطوعا فلها المهر كله ) ; لأنه يباح له الإفطار من غير عذر في رواية المنتقى ، [ ص: 334 ] وهذا القول في المهر هو الصحيح . وصوم القضاء والمنذور كالتطوع في رواية ; لأنه لا كفارة فيه ، والصلاة بمنزلة الصوم فرضها كفرضه ونفلها كنفله .

التالي السابق


( قوله : لأن المعقود عليه ) وهو منافع بضعها ( إنما يصير مستوفى بالوطء ) ولا يجب كمال البدل قبل الاستيفاء فلا [ ص: 332 ] يجب كمال المهر قبله ( قوله ولنا أنها سلمت المبدل إلخ ) يتضمن منع توقف وجوب الكمال على الاستيفاء بل على التسليم ( قوله اعتبارا بالبيع ) والإجارة ، ويعني أن الموجب للبدل تسليم المبدل لا حقيقة استيفاء المنفعة كالبيع والإجارة الموجب فيهما التسليم وهو رفع الموانع والتخلية بينه وبين المسلم إليه وإن لم يستوف المشتري والمستأجر منفعة أصلا ، فكذا في المتنازع فيه يكون تسليم البضع بذلك بل أولى .

وأما قوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } فالمجاز فيه متحتم ; لأنه إن حمل المس على الوطء كما يقول فهو من إطلاق اسم السبب على المسبب . والأوجه أنه من إطلاق اسم المطلق على أخص بخصوصه ، وإن حمل على الخلوة كما نقول فمن المسبب على السبب إذ المس مسبب عن الخلوة عادة وكل منهما ممكن . ويرجح الثاني بموافقة القياس المذكور والحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم { من كشف خمار امرأة أو نظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل } رواه الدارقطني والشيخ أبو بكر الرازي في أحكامه وقد يقال : يجب أن لا يعتبر هنا خلاف الأول مجاز إلا مجازا يعم الحقيقة ، والخلوة لا تصدق على الجماع فلا يكون المس مجازا فيها ، وإلا لزم أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس وجب نصف المهر ; لأنه طلقها قبل الخلوة ، والفرض أنها المراد بالمس في النص وهو باطل فلا يحمل على الخلوة .

ويجاب بأن ثبوت الكمال في الصورة المذكورة بالإجماع للإجماع على أنه حينئذ تسليم المبدل مع ادعاء الإجماع على وجوب كماله بالخلوة ، كما نقله الشيخ أبو بكر الرازي في أحكامه حيث قال : هو اتفاق الصدر الأول . وحكى الطحاوي فيه إجماع الصحابة وقال ابن المنذر : هو قول عمر وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وجابر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين . ويوافقه قوله تعالى { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } أوجب جميع المهر بالإفضاء وهو الخلوة ; لأنه من الدخول في القضاء قاله الفراء . وحينئذ فيكون وجوب نصفه بالطلاق قبل الخلوة الذي هو معنى النص مخصوصا أخرج منه الصورة التي أوردناها ، والدليل على وجود المخصص الإجماع المذكور .

ومن فروع لزوم المهر بالخلوة لو زنى بامرأة فتزوجها وهو على بطنها فعليه مهران : مهر بالزنا ; لأنه سقط الحد بالتزوج قبل تمام الزنا ، والمهر المسمى بالنكاح ; لأن هذا يزيد على الخلوة ( قوله وإن كان أحدهما مريضا ) شروع في بيان موانع صحة الخلوة ، وعبارة شرح الطحاوي فيه جامعة ، قال : الخلوة الصحيحة أن يخلو بها في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما كدار وبيت دون الصحراء والطريق الأعظم والسطح الذي ليس على جوانبه سترة ، وكذا إذا كان الستر رقيقا أو قصيرا بحيث لو قام إنسان يطلع عليهما يراهما ، وأن لا يكون مانع من الوطء حسا ولا طبعا ولا شرعا ا هـ .

ومن فصل الموانع ذكر منها الرتق والقرن والعفل وأن تكون شعراء أو صغيرة لا تطيق الجماع أو هو صغير لا يقدر عليه . وقال بعضهم : إن كان يشتهي وتتحرك آلته ينبغي أن يجب عليه كمال المهر ، وإذا كان معهما ثالث استوى منعه لصحة الخلوة بين أن يكون بصيرا أو [ ص: 333 ] أعمى يقظان أو نائما بالغا أو صبيا يعقل ; لأن الأعمى يحس والنائم يستيقظ ويتناوم ، فإن كان صغيرا لا يعقل أو مجنونا أو مغمى عليه لا يمنع . وقيل المجنون والمغمى عليه يمنعان ، وزوجته الأخرى مانعة إليه رجع محمد ، والجواري لا تمنع . وفي جوامع الفقه : جاريتها تمنع بخلاف جاريته .

وفي شرح المجمع : في أمته روايتان . والكلب العقور مانع ، وغير العقور إن كان لها منع أو له لا يمنع ، وعندي أن كلبه لا يمنع وإن كان عقورا ; لأن الكلب قط لا يتعدى على سيده ولا على من يمنعه سيده عنه .

ولو سافر بها فعدل عن الجادة بها إلى مكان خال فهي صحيحة ، ولا تصح الخلوة في المسجد والحمام . وقال شداد : إن كانت ظلمة شديدة صحت ; لأنها كالساتر ، وعلى قياس قوله تصح على سطح لا ساتر له إذا كانت ظلمة شديدة . والأوجه أن لا تصح ; لأن المانع الإحساس ولا يختص بالبصر ، ألا ترى إلى الامتناع لوجود الأعمى ولا إبصار للإحساس ، ولا تصح في بستان ليس له باب ، وتصح في محمل عليه قبة مضروبة وهو يقدر على وطئها وإن كان نهارا والحجلة والقبة كذلك .

ولو كانا في مخزن من خان يسكنه الناس فرد الباب ولم يغلقه والناس قعود في وسطه غير مترصدين لنظرهما صحت ، وإن كانوا مترصدين لا تصح ، وهذه الموانع من قبيل الحسي . ولو دخلت عليه فلم يعرفها ثم خرجت أو دخل هو عليها ولم يعرفها لا تصح عند أبي الليث ، وتصح عند الفقيه أبي بكر ، وكذا لو كانت نائمة ، ولو عرفها هو ولم تعرفه هي تصح .

[ فرعان ]

الأول : لو قال إن خلوت بك فأنت طالق فخلا بها طلقت ويجب نصف المهر . الثاني : للزوج أن يدخل بزوجته إذا كانت تطيق الجماع من غير تقدير ، وقد قدر بالبلوغ وبالتسع . واعلم أن أصحابنا أقاموا الخلوة الصحيحة مقام الوطء في حق بعض الأحكام تأكد المهر وثبوت النسب والعدة والنفقة والسكنى في مدة العدة ومراعاة وقت طلاقها ولم يقيموها مقامه في الإحصان ، وحلها للأول والرجعة والميراث ، وحرمة البنات . يعني إذا خلا بالمطلقة الرجعية لا يصير مراجعا ، وإذا خلا بامرأة ثم طلقها لا تحرم بناتها ولا يرث منها لو ماتت في العدة للاحتياط الواجب في هذه الأحكام . وفي شرح الشافي ذكر تزوج البنت على عكس هذا ففيه خلاف وأما في حق وقوع طلاق آخر ففيه روايتان ، والأشبه وقوعه ; لأن الأحكام لما اختلفت في هذا الباب وجب أن يقع احتياطا ( قوله وهذا التفصيل في مرضها ) قال الصدر الشهيد : وهو الصحيح [ ص: 334 ] قوله وهذا القول ) أي رواية المنتقى في حق كمال المهر هو الصحيح دفعا للضرر عنها ، أما في حق جواز الإفطار فالصحيح غيرها ، وهو أنه لا يباح إلا بعذر ، وقد قدمنا في كتاب الصوم بحثا أن رواية المنتقى في جواز الإفطار بلا عذر ثم وجوب القضاء أقعد بالدليل من ظاهر الرواية وقول المصنف هو الصحيح احتراز عن رواية شاذة عن أبي حنيفة أنه يمنع ; لأنه يمنعه الجماع ويجعله آثما لما فيه من إبطال العمل




الخدمات العلمية