الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول [ ص: 364 ] فلا مهر لها ) ; لأن المهر فيه لا يجب بمجرد العقد لفساده ، وإنما يجب باستيفاء منافع البضع ( وكذا بعد الخلوة ) ; لأن الخلوة فيه لا يثبت بها التمكن فلا تقام مقام الوطء ( فإن دخل بها فلها مهر مثلها لا يزاد على المسمى ) عندنا خلافا لزفر هو يعتبره بالبيع الفاسد . ولنا أن المستوفى ليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية فإذا زادت على مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية ، وإن نقصت لم تجب الزيادة على المسمى [ ص: 365 ] لانعدام التسمية ، بخلاف البيع ; لأنه مال متقوم في نفسه فيتقدر بدله بقيمته [ ص: 366 ] ( وعليها العدة ) إلحاقا للشبهة بالحقيقة في موضع الاحتياط وتحرزا عن اشتباه النسب .

ويعتبر ابتداؤها من وقت التفريق لا من آخر الوطآت ، هو الصحيح ; لأنها تجب باعتبار شبهة النكاح ورفعها بالتفريق [ ص: 367 ] ( ويثبت نسب ولدها ) ; لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد فيترتب على الثابت من وجه . وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد وعليه الفتوى ; لأن النكاح الفاسد ليس بداع إليه ، والإقامة باعتباره .

التالي السابق


( قوله وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد ) وهو كتزوج الأخت في عدة الأخت أو الخامسة في عدة الرابعة أو الأمة على الحرة ، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها خلا بها أو لم يخل ; لأن المهر لا يجب في النكاح الفاسد إلا بالدخول ، وإنما لم تقم الخلوة فيه مقام الدخول ; لأن التمكن منها فيه منتف شرعا ، بخلاف الصحيح فإنه يجب فيه بالعقد ويكمل بالخلوة لو طلقها فيه قبل الدخول ; لأن الخلوة فيه أقيمت مقام الدخول لثبوت التمكن من الوطء شرعا وحسا . فإن دخل بها بجماع في القبل فلها مهر مثلها لا يزاد على المسمى عندنا خلافا لزفر رحمه الله اعتبره بالبيع الفاسد حيث تجب فيه القيمة إذا امتنع الرد ، ونحن نقول المستوفى وليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية ، فإن زادت على مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية ، وإن نقصت لم تجب الزيادة على المسمى لعدم التسمية .

وأورد عليه لزوم التناقض ; لأنك أسقطت اعتبار التسمية إذا زادت على مهر المثل ، ثم اعتبرتها إذا نقصت منه ، فإن كانت فاسدة يجب شمول العدم ، وإن كانت صحيحة فشمول الوجود . وأجاب المورد بأنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه ، صحيحة من حيث إن المسمى مال فاسدة من حيث إنها وجدت في عقد فاسد فاعتبرنا [ ص: 364 ] فسادها إذا زادت وصحتها إذا نقصت لانضمام رضاها . والحق أن هذه التسمية ليست إلا فاسدة ، وقد صرح المصنف ببطلانها ، إذ ليس معنى فساد التسمية إلا كون المسمى ليس بمال أو وقوعه في عقد فاسد كل منهما يستقل بفسادها وبفسادها وجب المصير إلى مهر المثل ; لأنه القيمة للبضع شرعا .

وتقرير الكتاب لا تجب الزيادة لعدم التسمية : أي ; لأنها لم تسمها فكانت راضية بالحط مسقطة حقها في الزيادة إلى تمامه حيث لم تسم تمامه . وإذا علمت فساد التسمية علمت أن المصير في العقد الفاسد إلى مهر المثل بالدخول اتفاقا بيننا وبين زفر رحمه الله ، غير أنه يوجبه بالغا ما بلغ ونحن لا نجاوز به المسمى لما ذكرنا . فوجه الاستدلال أن يقال : سلمنا أن الواجب فيه مهر المثل لكنها رضيت بإسقاط بعض حقها ، ونترك باقي المقدمات لأنه لا حاجة إليها بل لا تصح ; لأن قوله إنما يتقوم بالتسمية ، إن أراد في النكاح الصحيح فالحصر ممنوع بل تارة بها وتارة بمهر المثل ، وإن أراد في الفاسد فقد ظهر أنها لا تصح فيه حتى صار خاليا عن التسمية ووجب مهر المثل ، غير أنه اعتبر حطها .

فإن قيل : لم اعتبر رضاها بالحط ولم يعتبر رضاها بالزيادة فلم يوجبوا المسمى إذا زاد على مهر المثل ؟ فالجواب أنا لو أوجبناه [ ص: 365 ] فإما ; لأنه مسمى وقد بطل وإما لرضاها ، ومجرد الرضا بالتمليك لا يثبت لزوم القضاء به ; لأن به لا يدخل في ملك الآخر بالقبض ، بخلاف الرضا بالحط ; لأنه إسقاط فيتم بالواحد ، وعلى هذا لا تتم المعارضة لزفر رحمه الله بما في الترمذي وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل } الحديث ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فكان وجوب مهر المثل أصلا في كل نكاح فاسد ، هذا بعدما فيه مما قدمنا في باب الأولياء والأكفاء .

[ فروع ]

لا يصير محصنا بهذا الدخول إلا عند أبي ثور .

وأجمعت الأمة على أنه لا يكون محصنا في العقد الصحيح إلا بالدخول ، ثم لو تكرر الجماع لم يلزمه سوى مهر واحد وهو ما ذكرنا ، بخلاف ما إذا تكرر وطء الابن لجارية الأب وادعى الشبهة فإنه يلزمه بكل وطء مهر والأصل أن الوطء في غير الملك إن كان بشبهة اشتباه تعدد المهر بتكرره ، وإن كان بشبهة ملك لا يتعدد بتعدده ، ففي جارية الأب وجارية الزوجة إذا وطئها بخروج الثابت في حقهما شبهة الاشتباه فيتكرر بتكرره .

وفي جارية الابن إذا وطئها الأب والمكاتبة إذا وطئها السيد والزوجة في النكاح الفاسد أو في النكاح الصحيح إذا ظهر بعد تعدد الوطء أنه كان حلف بطلاقها الثابت في حقهم شبهة الملك ، وتقرر الوطء في الملك لا يتعدد به المهر فكذا في شبهته . وأما إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة مرارا قال الشيخ حسام الدين : لم يذكره في الكتاب ، وكان الشيخ برهان الدين والدي يقول : يتعدد المهر ; لأنه في النصف الآخر ليس له شبهة ملك فصار بمنزلة جارية الأب في حق الابن ، ولو وطئها بعد التفريق في النكاح الفاسد يحد لانتفاء الشبهة .

ولو زنى بامرأة فتزوجها وهو مخالطها ثم أتم الجماع لزمه مهران : مهر المثل بالزنا لما سقط عنه الحد حين تزوجها قبل تمامه والمهر المسمى بالنكاح وإن طلقها في الحال ; لأن هذا أكثر من الخلوة . وفي الخلاصة في الجنس الخامس من فصل المهر : لو وطئ المعتدة عن طلاق ثلاث وادعى الشبهة هل يلزمه مهر واحد أم بكل وطء مهر ؟ قيل : إن كانت الطلقات الثلاث جملة واحدة فظن أنها لم تقع فهو ظن في موضعه فيلزمه مهر واحد ، وإن ظن أنها تقع لكن ظن أن وطئها حلال فهذا ظن في غير موضعه فيلزمه بكل وطء مهر . وفي نوادر هشام عن محمد رحمه الله : اشترى جارية فوطئها مرارا ثم استحقت فعليه مهر واحد ، وإن استحق نصفها فعليه نصف [ ص: 366 ] المهر . وفي آخر حدود خواهر زاده : الصبي إذا زنى بصبية فعليه المهر ، وإن أقر بذلك لا مهر عليه ، وإذا زنى الصبي ببالغة مكرهة فعليه المهر ، وإن دعته إلى نفسها لا مهر عليه ، ولو دعت صبية صبيا عليه المهر ، وكذا لو دعت أمة صبيا ، والمراد من المهر العقر ( قوله وعليها العدة ) يعني إذا فارقها وقد دخل بها لا بمجرد الخلوة ; لأنها لا تقام مقام الوطء في النكاح الفاسد ، وينبغي أن لا يجب عليها الإحداد .

في الأصل فيما إذا دخل الرجل على غير امرأته فدخل بها قال عليه مهر لها ; لأنه دخل بها بشبهة النكاح ; لأن خبر الواحد حجة في المعاملات فيصير شبهة تسقط الحد ويجب المهر . قال في الكتاب : وعليها العدة ويثبت نسب ولدها منه ، ولا تتقي في عدتها ما تتقي المعتدة بنحوه قضى رضي الله عنه ولأن الإحداد لإظهار التأسف على فوات نعمة النكاح وليس ذلك في الوطء بشبهة ولا نفقة في هذه العدة ; لأن وجوبها باعتبار الملك الثابت بالنكاح وهو متصف هنا ; ولأنها النفقة التي كانت واجبة بأصل النكاح تبقى في العدة ولم يكن لها عليه نفقة مستحقة هاهنا لتبقى ، ولا يرجع بالمهر على الذي أدخلها عليه ; لأنه هو المستوفي للبدل ، ولو كانت هذه أخت امرأته حرمت عليه امرأته إلى انقضاء عدتها ( قوله ويعتبر ابتداؤها من وقت التفريق لا من آخر الوطآت هو الصحيح ) احترازا عن قول زفر ; لأنها إنما تجب باعتبار شبهة النكاح ، ورفع هذه الشبهة بالتفريق أو بالافتراق بالمتاركة إذ لا يتحقق الطلاق في النكاح الفاسد فلا يرتفع إلا بما قلنا ، ولا تتحقق المشاركة إلا بالقول بأن يقول تاركتك أو خليت سبيلك أو خليتها أو تركتها ، أما لو تركها ومضى على ذلك سنون لم يكن لها أن تتزوج بآخر . قال الشيخ الإمام فخر الدين قاضي خان : هذا في المدخول بها [ ص: 367 ] أما في غيرها فبتفرق الأبدان بأن لا يعود إليها ، ولكل منهما فسخ الفاسد بغير حضور الآخر . وقيل بعد الدخول ليس له ذلك إلا بحضور الآخر . وعلم غير المتارك ليس شرطا لصحة المتاركة على الأصح ، وإنكار النكاح إن كان بحضرتها فهو متاركة وإلا فلا .

روي ذلك عن أبي يوسف . واختار الصفار قول زفر ، حتى لو حاضت ثلاث حيض من آخر الوطآت قبل التفريق انقضت العدة ، وعندنا ما لم تحضها بعد التفريق أو المتاركة لم تنقض ، ويجب أن يكون هذا كله في القضاء ، أما فيما بينها وبين الله تعالى فإذا علمت أنها حاضت بعد آخر وطء ثلاثا ينبغي أن يحل لها التزوج فيما بينها وبين الله تعالى على قياس ما قدمناه من نقل العتابي . وفي الفتاوى : لا تجب عدة الوفاة من النكاح الفاسد .

( قوله وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد ، وعليه الفتوى ; لأن النكاح الفاسد ليس بداع إلى الوطء والإقامة ) أي إقامة العقد فقام الوطء ( باعتباره ) وهذا جواب عن قياسهما على الصحيح . وذكر في الأصل : تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل بها وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها فادعاه المولى والزوج فهو ابن الزوج فاعتبره من وقت النكاح ولم يحك خلافا ، قال شيخ الإسلام : تأويل هذا أن الدخول كان عقيب النكاح بلا مهلة . قال في الغاية : قد اعتبروا العدة من وقت التفريق فكان الأحوط في النسب من وقت التفريق أيضا لا من وقت النكاح ; لأن العدة للنسب .

قال شارح الكنز : هذا وهم ; لأنهم إنما اعتبروها من وقت النكاح ليثبت نسبه بمجرد العقد إقامة للتمكن من الوطء بالشبهة مقام الوطء ، حتى لو جاءت بولد لستة أشهر من وقت العقد ولأقل منها من وقت الوطء ثبت نسبه كما في الصحيح ، ولا ينافي ذلك اعتبارها من وقت التفريق ألا يرى أنها لو جاءت بولد لأكثر من سنتين من وقت النكاح ولم يفارقها وهي معه ثبت نسبه ، ولو كان الاعتبار لوقت التفريق لا غير لما ثبت ، وكذا لو فارقها بعد عشر سنين لا يمكن الاعتبار لوقت التفريق لا غير ، ولو خلا بها ثم جاءت بولد ثبت نسبه منه ، ويجب المهر والعدة في رواية عن أبي يوسف . وعنه لا يثبت ولا يجب المهر ولا العدة وهو قول زفر ، وإن لم يخل بها لا يلزمه الولد ا هـ .

والحاصل أنه يعتبر من وقت التفريق إذا وقعت فرقة وما لم تقع فمن وقت النكاح أو الدخول على الخلاف




الخدمات العلمية