الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 135 ] قال ( ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق ) لما روينا ، ولقول عمر رضي الله عنه : وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره ، ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالئ بالكالئ ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا ، ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء [ ص: 136 ] كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا ، ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا ، والمراد منه الافتراق بالأبدان ، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر رضي الله عنه [ ص: 137 ] وإن وثب من سطح فثب معه ، وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم ، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض فيه .

التالي السابق


( قوله ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق ) بإجماع الفقهاء . وفي فوائد القدوري : المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم لا بالتخلية يريد باليد ، وذكرنا آنفا أن المختار أن هذا القبض شرط البقاء على الصحة لا شرط ابتداء الصحة لظاهر قوله : فإذا افترقا بطل العقد ، وإنما يبطل بعد وجوده وهو الأصح . وثمرة الخلاف فيما إذا ظهر الفساد فيما هو صرف يفسد فيما ليس صرفا عند أبي حنيفة رحمه الله ، ولا يفسد على القول الأصح ، وقوله ( لما روينا ) يعني قوله [ ص: 136 ] يدا بيد " وكذا ما روينا من حديث البخاري قوله صلى الله عليه وسلم { ولا تبيعوا منها غائبا بناجز } وقول عمر : " وإن استنظرك إلى آخره ، رواه مالك في الموطإ عنه قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز ، وإن استنظرك أن يلج بيته فلا تنظره إلا يدا بيد هات وهات ، إني أخشى عليكم الربا " وفي رواية قال " الرما " بالميم وهو الربا . ورواه عبد الرزاق وقال : أن يدخل بيته . ولما ثبت نص الشرع بإلزام التقابض علله الفقهاء بما ذكره المصنف ، وحله أن للتقدم مزية على النسيئة فيتحقق الفضل في أحد العوضين وهو الربا ، ولما كان مظنة أن يقال : هذا غير لازم في قبض العوضين لجواز أن يجعلا معا نسيئة قال : لا بد شرعا من قبض أحد العوضين كي لا يلزم الكالئ بالكالئ : أي الدين بالدين فلو لم يقبض الآخر لزم الربا بما قلنا .

وأيضا يلزم الترجيح بلا مرجح لأنهما مستويان في معنى الثمنية ، فإذا وجب قبض أحدهما فكذا الآخر لعدم الأولوية . فإن قيل : تعليل الكتاب يخص الثمنين المحضين اللذين لا يتعينان والحكم وهو لزوم التقابض ثابت وإن كان أحدهما يتعين بالتعيين كالمصوغ .

فأجاب بأن ذلك لإطلاق ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب والفضة بالفضة } وعلل الإطلاق المذكور بأن المتعين أيضا كالمصوغ فيه شبهة عدم التعيين إذ فيه شبهة الثمنية إذ قد خلق ثمنا ، والشبهة في باب الربا كالحقيقة على ما مر غير مرة . ولما كان المعول عليه تناول [ ص: 137 ] النص بإطلاقه لم يدفعه أن الثابت شبهة الشبهة بل وجب بالنص إلحاق شبهة شبهة الربا بشبهة الربا في هذا الحكم .

وقوله في جهة واحدة لأنهما لو مشيا كل في جهة كان افتراقا مبطلا . وقول ابن عمر : وإن وثب من سطح فثب ، يفيد عدم بطلان العقد بمجرد اختلاف المكان ، بل إذا لم يوافقه الآخر فيه ، وهذا لأن بمجرد وثوب أحدهما اختلف مكانهما ولم يعتبر مانعا إلا إذا لم يثب معه .

وحديث ابن عمر هذا غريب جدا من كتب الحديث ، وذكره في المبسوط فقال : وعن أبي جبلة قال : سألت عبد الله بن عمر فقلت : إنا نقدم أرض الشام ومعنا الورق الثقال النافقة وعندهم الورق الخفاف الكاسدة ، فنبتاع ورقهم العشر بتسعة ونصف ، فقال : لا تفعل ، ولكن بع ورقك بذهب واشتر ورقهم بالذهب ، ولا تفارقه حتى تستوفي ، وإن وثب عن سطح فثب معه . وفيه دليل رجوعه عن جواز التفاضل كما هو مذهب ابن عباس .

وعن ابن عباس أيضا رجوعه ، وفيه دليل أن المفتي إذا أجاب لا بأس أن يبين للسائل طريق تحصيل مطلوبه كما فعل صلى الله عليه وسلم حيث قال لبلال { بع التمر ببيع آخر ثم اشتريه } إنما المحظور تعليم الحيل الكاذبة لإسقاط الوجوبات .

قال ( وكذا المعتبر في قبض رأس مال السلم ) يعني أن يقبضه قبل الافتراق دون اتحاد المجلس ( بخلاف خيار المخيرة ) فإنها لو قامت قبل الاختيار بطل ، وكذا إذا مشت مع زوجها في جهة واحدة فإن ذلك دليل إعراضها عما كانت فيه ; لأن المعتبر في الإبطال هناك دليل الإعراض ، والقيام ونحوه دليله فلزم فيه المجلس ، ولتعلق الصحة بعدم الافتراق لا يبطل لو ناما في المجلس قبل الافتراق أو أغمي عليهما أو طال قعودهما . وعن محمد رحمه الله جعل الصرف كخيار المخيرة يبطل بدليل الإعراض كالقيام من المجلس ، حتى لو ناما أو أحدهما فهو فرقة ، ولو ناما جالسين فلا .

وعنه : القعود الطويل فرقة دون القصير ، ولو كان لرجل على آخر ألف درهم وللآخر عليه مائة دينار فأرسل رسولا يقول له : بعتك الدراهم التي لي عليك بالدنانير التي لك علي فقال : قبلت كان باطلا ، وكذا لو نادى أحدهما صاحبه من وراء جدار أو من بعيد لأنهما متفرقان . وعن محمد لو قال الأب : اشهدوا أني اشتريت هذا الدينار من ابني الصغير بعشرة وقام قبل نقدها بطل . هذا ويجوز الرهن ببدل الصرف والحوالة به كما في رأس مال السلم .




الخدمات العلمية