الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ثم شرع في الركن الثاني وهو العقد ، وقدمه على المعقود عليه لتقدم الفاعل على المفعول طبعا ، فقال ( وشرط العاقد ) بائعا أو مشتريا الإبصار كما سيذكره ، و ( الرشد ) يعني عدم الحجر ليشمل من بلغ مصلحا لدينه وماله ثم بذر ولم يحجر عليه ، ومن لم يعهد له تقدم تصرف عليه بعد بلوغه وجهل حاله ، فإن الأقرب صحة تصرفه كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى كمن جهل رقه وحريته لأن الغالب عدم الحجر كالحرية ، [ ص: 386 ] ومن حجر عليه بفلس إذا عقد في الذمة بخلاف صبي ولو مراهقا ومجنون ومحجور عليه بسفه مطلقا وفلس بالنسبة لبيع عين ماله ، وإنما صح بيع العبد من نفسه ; لأنه عقد عتاقة ، ولو أتلف الصبي أو تلف عنده ما ابتاعه أو اقترضه من رشيد وأقبضه له لم يضمن ظاهرا وكذا باطنا وإن نقل عن نص الأم خلافه ، واعتمده بعض المتأخرين ، إذ القبض مضيع لماله أو من صبي مثله ولم يأذن الوليان ضمن كل منهما ما قبض من الآخر ، فإن كان بإذنهما فالضمان عليهما فقط لوجود التسليط منهما ، وعلى بائع الصبي رد الثمن لوليه ، فلو رده لصبي ولو بإذن الولي وهو ملك الصبي لم يبرأ منه .

                                                                                                                            نعم إن رده بإذنه وله في ذلك مصلحة متعلقة ببدنه كمأكول ومشروب ونحوهما برئ كما قاله الزركشي ، ولو قال مالك وديعة سلم وديعتي للصبي أو ألقها في البحر ففعل برئ لامتثال أمره ، بخلاف ما لو كان دينا ، إذ ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح ، ولو أعطى صبي دينارا لمن ينقده أو متاعا لمن يقومه ضمن الآخذ إن لم يرده لوليه إن كان ملك الصبي أو لمالكه إن كان لغيره ، ولو أوصل صبي هدية إلى غيره وقال هي من زيد مثلا أو أخبر بالدخول عمل بخبره مع ما يفيد العلم أو الظن من قرينة ، [ ص: 387 ] وكالصبي في ذلك الفاسق ، ويصح بيع السكران المتعدي بسكره مع عدم تكليفه على الراجح ، ولوروده على مفهوم قول أصله التكليف كالسفيه على منطوقه أبدله بالرشد ليشمله بالمعنى الذي قررناه ، ولا يرد عليه من زال عقله بغير مؤثم لكونه ملحقا بالمحجور عليه ( قلت : وعدم الإكراه بغير حق ) فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق لعدم الرضا وقد قال تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } بخلافه بحق كأن أكره رقيقه عليه أو أكره غيره ولو بباطل على بيع مال نفسه فإنه يصح إذ هو أبلغ في الإذن فيهما ، أو تعين بيع ماله لوفاء دينه أو شراء مال أسلم إليه فيه فأجبره الحاكم عليه [ ص: 388 ] بالضرب وغيره وإن صح بيع الحاكم له لتقصيره ، ويصح بيع المصادر مطلقا ، إذ لا إكراه ظاهرا

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : لتقدم الفاعل ) أي وهو العاقد بصفة كونه عاقدا ( قوله : على المفعول ) أي وهو المعقود عليه من حيث كونه معقودا عليه ( قوله : بائعا أو مشتريا ) اقتصر عليهما لكون الكلام في البيع فلا ينافي أن عدم الحجر معتبر في سائر العقود ، وعبارة المحلي : وشرط العاقد البائع أو غيره ( قوله : يعني عدم الحجر ) أي أو ما في معناه كمن زال عقله بغير مؤثم فإنه في معنى المحجور عليه كما يأتي ، وكتب عليه سم على حج : يمكن أن يقال المراد الرشد حقيقة أو حكما ا هـ .

                                                                                                                            أقول : وهو يرجع في المعنى لما ذكر الشارح بقوله يعني عدم الحجر ( قوله : ليشمل من بلغ مصلحا لدينه ) أي ويتحقق ذلك بمضي زمان يحكم عليه فيه بأنه مصلح عرفا ، فما اقتضاه كلامه من أن العبرة بوقت البلوغ خاصة حتى لو بلغ قبل الزوال مثلا ولم يتعاط مفسقا في ذلك الوقت ثم تعاطى ما يفسق به بعد صح تصرفه غير مراد ( قوله : ثم بذر ) أي أو فسق ، ومعلوم أنه لا يحجر عليه بالفسق ( قوله : ومن لم يعهد له تقدم تصرف عليه ) وجه الشمول لهذه أن المراد بالمحجور من علم الحجر عليه ولم يعلم انفكاكه ، وهذا لم يعلم بعد بلوغه حجر عليه ; لأنه بالبلوغ ذهب حجر الصبا ولم يعلم حجر يخلفه ، ومفهومه أنه لو عهد عليه ذلك لا تجوز معاملته إلا إذا علمنا رشده بعد ذلك وهو ظاهر ( قوله : كالحرية ) نعم لو ادعى والد بائع بقاء حجره عليه صدق بيمينه كما هو ظاهر خلافا لبعضهم لأصل دوامه حينئذ .

                                                                                                                            نعم ينبغي فيمن اشتهر رشده عدم شرع دعواه حينئذ ا هـ حج وقضية قول الشارح [ ص: 386 ] ومن لم يعهد له تقدم تصرف إلخ عدم تصديق الولي ( قوله : إذا عقد في الذمة ) هو بهذا القيد لا يحتاج في دخوله إلى التأويل المذكور .

                                                                                                                            نعم يحتاج للتأويل لإخراج المفلس إذا تصرف في أعيان ماله ( قوله : ولو مراهقا ) قال حج : واختيار صحة ما اعتيد من عقد المميزين لا يعول عليه ( قوله : ومجنون ) عمومه شامل لما لو حصلت له حالة تمييز بحيث يعرف الأوقات والعقود ونحوهما إلا أن تعرض له حالة إذا حصلت ممن لم يسبق له جنون حملت على حدة الخلق ، وهو ظاهر فيما لو أفاق من جنونه وهو بتلك الحالة استصحابا لحكم الجنون ، بخلاف ما لو حصلت له تلك الحالة ابتداء استصحابا لما كان عليه قبل كما صرحوا به في باب الحجر ( قوله : وإنما صح بيع العبد ) أي ولو سفيها كما هو ظاهر إطلاقه لكن كونه عقد عتاقة يقتضي اشتراط الرشد ، وهو ظاهر ، ، ونقل بالدرس عن حج في معاملة الرقيق ما يصرح به ( قوله : لأنه عقد عتاقة ) هذا التعليل لا يتأتى فيما لو وكل شخص العبد في أن يشتري نفسه من سيده لموكله مع أن بعضهم ذكر الصحة فيها ، ويوجه بأن منع تصرفه إنما هو لحق السيد وقد زال بعقده معه فأشبه ما لو باع الراهن العين المرهونة من المرتهن فإنه جائز لعدم تفويت حق المرتهن .

                                                                                                                            ( قوله : أو اقترضه ) ومثلهما ما يقتضي التمليك من العقود ( قوله : بعض المتأخرين ) منهم شيخ الإسلام في باب الحجر ( قوله : ولم يأذن الوليان ) ظاهره وإن علم الولي بذلك وأقره ، ولو قيل بالضمان في هذه الحالة لم يكن بعيدا ( قوله : ضمن كل ) أي لعدم إذن الولي ، والمراد أنه يثبت البدل في ذمة الصبي ويؤدي الولي من مال الصبي ، وعليه فليس المراد بقولهم يضمن في ماله أنه يتعلق عين المال كتعلق الأرش بالجاني ( قوله : فالضمان عليهما ) أي الوليين أو بإذن أحدهما فالضمان عليه فيما أذن فيه لموليه ( قوله : وهو ملك الصبي ) أي أما إذا كان ملك الولي فإنه يبرأ ; لأن الولي هو المضيع لماله ( قوله : نعم إن رده ) أي البائع بإذنه أي الولي ( قوله : وله ) أي الصبي ( قوله : برئ ) أي البالغ ( قوله : سلم وديعتي للصبي ) سواء عينه أو أطلق ( قوله : ففعل برئ ) أي وإن أثم ، فلو أنكر صاحب الوديعة الإذن صدق بيمينه ; لأن الأصل عدمه ( قوله : بخلاف ما لو كان دينا ) أي فلا يبرأ منه ، وكالدين خبز الوظائف ودراهم الجامكية إذا دفعهما من هما تحت يده للصبي ( قوله : لم ينقده ) بابه نصر مختار ( قوله : عمل بخبره ) أي فإن تبين كذبه وجب عليه رده [ ص: 387 ] إن كان باقيا ورد بدله إن كان تالفا ( قوله : وكالصبي في ذلك ) أي إيصال الهدية والإخبار بالدخول ( قوله : والفاسق ) ومثله الكافر ( قوله : ولورده ) أي السكران ( قوله : بالمعنى الذي قررناه ) أي في قوله يعني عدم الحجر ( قوله : فلا يصح عقد مكره ) قال في شرح العباب : ومحله إن لم يقصد إيقاع البيع ، والأصح كما بحثه الزركشي آخذا من قولهم لو أكره على إيقاع الطلاق فقصد إيقاعه صح لقصده ا هـ سم على حج .

                                                                                                                            وقوله : في ماله : أي وكذا في مال غيره حيث كان المكره له غير مالكه كما يفهم من قوله أو أكره غيره إلخ .

                                                                                                                            ويؤخذ من تشبيهه بالطلاق أن مثل ذلك ما لو أكرهه على بيع أحد هذين فباع واحدا منهما بعينه فإن تعيينه مشعر باختياره كما لو أكرهه على طلاق إحدى زوجتيه فطلق واحدة بعينها .

                                                                                                                            وأما لو عين له هنا أحدهما وأكرهه عليه فلا يصح ( قوله : في ماله ) أشار به إلى أنه كان ينبغي التقييد بهذا القيد في كلام المصنف لأن عمومه شامل لما لو أكره غيره على بيع مال نفسه فيبطل به البيع وليس مرادا فإن عقده صحيح ( قوله : لعدم الرضا ) قال حج : وليس منه : أي من الإكراه خلافا لمن زعمه قول مجبر لها لا أزوجك إلا إن بعتني مثلا كذا ا هـ .

                                                                                                                            وكتب عليه سم كأن وجهه أن لها مندوحة عن البيع له ; لأنها إذا طلبت التزويج فامتنع زوجها الحاكم ، لكن انظر لو جهلت أن لها مندوحة واعتقدت أن لا طريق إلا البيع هل يصح أو لا ا هـ .

                                                                                                                            أقول : قد يقال الأقرب عدم الصحة لاضطرارها إليه حينئذ فكون امتناعه من تزويجها كما لو هددها بإتلاف مال لها بل أولى ، فلا يقال إن امتناعه لا يتحقق فيه معنى الإكراه ; لأن الإكراه هو التهديد بعقوبة عاجلا ظلما ; لأنا نقول : ليست العقوبة خاصة بنحو الضرب بل شاملة لمثل الغصب ، وهذا في معناه ( قوله : بخلافه بحق ) ومن الإكراه بحق ما لو أكرهه الحاكم في زمن من الغلاء على بيع ما زاد على حاجته الناجزة ، ومنه أيضا ما لو طالبه المستحق ببيع ماله ووفاء دينه فحلف بالطلاق الثلاث أنه لا يبيع فأكرهه الحاكم على البيع فباع صح ، وهو مقتضى ما ذكره حج في باب الطلاق من أنه لو حلف لا يكلم زيدا فأكرهه الحاكم على تكليمه لم يحنث عدم وقوع الطلاق هنا لوجود الإكراه ، لكن مقتضى كلام الشارح ثم الحنث ( قوله : كأن أكره رقيقه عليه ) أي على بيع عين ماله أو الشراء بعين المال ، ومثل رقيقة من يستحق منفعته كموصى له بها ومؤجر ( قوله : ولو بباطل ) أي بأن كان غير مالك لمنفعته ( قوله : على بيع مال نفسه ) مفهومه أنه لا يصح إكراه الولي في مال موليه ، ولعله غير مراد وأن المراد بماله ما له عليه ولاية فيدخل المولى في مال موليه والحاكم في مال الممتنع أخذا من الغلة ، ومحله في الولي حيث جاز له التوكيل كأن عجز عن المباشرة ( قوله : فإنه صح ) أي ولا يحنث لو كان حلف أن لا يبيع ; لأنه مكره وفعله كلا فعل ( قوله : فأجبره الحاكم ) أفهم أنه لا يصح لو باعه بإكراه غير الحاكم ، ولو كان المكره مستحق الدين وهو ظاهر ; لأن لا ولاية له .

                                                                                                                            نعم إن تعذر الحاكم فيتجه الصحة بإكراه المستحق أو غيره ممن له قدرة أو بتعاطيه البيع بنفسه كمن له شوكة مثل شاد البلد ومن في معناه ; لأن المقصود إيصال الحق لمستحقه .

                                                                                                                            هذا ولصاحب الحق أن يأخذ ماله ويتصرف فيه بالبيع إن لم يكن من جنس حقه ويحصل حقه به ، وأن يتملكه إن كان من جنس حقه ; لأنه ظافر ، ومنه ما يقع في مصرنا أن بعض الملتزمين بالبلاد يأخذ غلال الفلاحين ونحوها لامتناعهم من أداء المال أو هربهم [ ص: 388 ] فيصح بيع الملتزم له ويحل الأخذ منه حيث وجدت شروط الظفر ( قوله : ويصح بيع مال المصادر مطلقا ) أي ظاهرا وباطنا علم له مال غيره أو لا قال حج : ويحرم الشراء منه ، وأقره سم ، وقد يتوقف في الحرمة ; لأن غرض البائع الآن تحصيل ما يتخلص به فأشبه بيعه لما يحتاجه لنفقة عياله وقد قال فيها بالجواز ، بل لو قيل بإثابة المشتري حيث قصد بالشراء منه إنقاذه من العقوبة لم يبعد



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 385 ] قوله : لتقدم الفاعل على المفعول ) لا يخفى أن المعقود عليه هو الثمن أو المثمن لا نفس العقد إذ هو الصيغة وقد مرت والعاقد ليس فاعلا للثمن والمثمن وإنما هو فاعل للعقد وهو الصيغة .

                                                                                                                            فإن قلت : مراده بكونه فاعل المعقود عليه كونه عاقدا عليه لأنه إنما اتصف بكونه معقودا عليه بعد إجراء العقد عليه من العاقد فيلزم تقدمه عليه : بهذا المعنى .

                                                                                                                            قلت : وهو إنما يسمى عاقدا بعد وجود معقود عليه أجرى عليه العقد فهما من الأمور النسبية [ ص: 386 ] قوله : ومن حجر عليه بفلس إلخ ) هذا لا يحتاج في شموله إلى التحويل الذي ذكره الشارح فعطفه على ما قبله فيه مساهلة .




                                                                                                                            الخدمات العلمية