الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1582 249 - حدثنا فروة بن أبي المغراء قال: حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، قال عروة: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، وكانت الحمس يحتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا، وكان يفيض جماعة الناس من عرفات ويفيض الحمس من جمع. قال: وأخبرني أبي، عن عائشة - رضي الله عنها- أن هذه الآية نزلت في الحمس: [ ص: 4 ] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قال: كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ؛ لأن الأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة، فصاروا مأمورين بالوقوف في عرفة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم خمسة؛ الأول: فروة بفتح الفاء وسكون الراء وفتح الواو، ابن أبي المغراء بفتح الميم وسكون الغين المعجمة وبالراء وبالمد، مر في آخر الجنائز. الثاني: علي بن مسهر بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء وبالراء، قاضي الموصل، مر في باب مباشرة الحائض. الثالث: هشام بن عروة، وقد تكرر ذكره. الرابع: عروة بن الزبير. الخامس: أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في موضعين، وفيه أن شيخه من أفراده، وأنه وابن مسهر كوفيان وأن هشاما وأباه عروة مدنيان، وفيه أن من قوله: "قال عروة" إلى قوله: "وأخبرني"، موقوف. ومن قوله: "وأخبرني" إلى آخره، متصل، وفيه قال عروة، وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: " عراة" جمع عار، كقضاة جمع قاض، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "يطوفون"، وقد مر تفسير الحمس عن قريب. قوله: " وما ولدت" ؛ أي: وأولادهم، واختار كلمة (ما) على كلمة (من)؛ لعمومه، وقيل: المراد به والدهم، وهو كنانة؛ لأن الصحيح أن قريشا هم أولاد النضر بن كنانة، وزاد معمر هنا: وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة، وعن مجاهد، أن منهم أيضا عدوان وغيرهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويحتسبون" ؛ أي: يعطون الناس الثياب حسبة لله تعالى. قوله: " يفيض" ؛ أصله من إفاضة الماء، وهو صبه بكثرة، وقال الزمخشري: أفضتم: دفعتم من كثرة الماء. قوله: " جماعة الناس" ؛ أي: غير الحمس. قوله: " من عرفات" هو علم للموقف، وهو منصرف؛ إذ لا تأنيث فيها، قاله الكرماني والتحقيق فيه ما قاله الزمخشري. (فإن قلت): هلا منعت الصرف وفيه السببان: التعريف والتأنيث؟ (قلت): لا يخلو التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا تقدر تاء التأنيث في (بنت)؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، انتهى.

                                                                                                                                                                                  وسميت عرفات بهذا الاسم إما لأنها وصفت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما بصرها عرفها، أو لأن جبريل عليه الصلاة والسلام حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها، فقال: قد عرفت، أو لأن آدم عليه الصلاة والسلام هبط من الجنة بأرض الهند وحواء عليها السلام بجدة فالتقيا ثمة فتعارفا، أو لأن الناس يتعارفون بها، أو لأن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم- عرف حقيقة رؤياه في ذبح ولده ثمة، أو لأن الخلق يعترفون فيها بذنوبهم، أو لأن فيها جبالا، والجبال هي الأعراف، وكل عال فهو عرف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من جمع" بفتح الجيم وسكون الميم؛ هي المزدلفة وسمي به؛ لأن آدم عليه الصلاة والسلام اجتمع فيها مع حواء عليها السلام وازدلف إليها؛ أي: دنا منها، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين وأهلها يزدلفون؛ أي: يتقربون إلى الله تعالى بالوقوف فيها.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أصلها مزتلفة؛ لأنها من زلف فقلبت التاء دالا لأجل الزاي، قوله: " قال: وأخبرني أبي" ؛ أي: قال هشام: وأخبرني أبي عروة، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن هذه الآية" ؛ أي: قوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واختلف أهل التفسير في هذه الآية، فقال الضحاك: يريد إبراهيم عليه السلام، يعني يريد من الناس إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويؤيده ما رواه الترمذي : حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن وقوف بالموقف مكانا يباعده عمرو فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وقال: حديث حسن صحيح، واسم ابن مربع: زيد، وقيل: يزيد، وقيل: عبد الله بن مربع بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة، وفي آخره عين مهملة، ويزيد بن شيبان أزدي وله صحبة. قوله: " كونوا على مشاعركم" ؛ أي: على مواضع المناسك، وفي رواية أبي داود: " قفوا على مشاعركم"، وفي رواية حسين بن عقيل، عن الضحاك من حيث أفاض الناس أي: الإمام، وقيل: آدم عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 5 ] ويؤيده قراءة الناس، وهو آدم عليه السلام من قوله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي وقيل: من حيث أفاض الناس ؛ أي: سائر الناس غير الحمس. وقال ابن التين: وهو الصحيح. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فكيف موقع (ثم)؟ يعني في قوله: ثم أفيضوا ؛ لأن (ثم) تقتضي المهلة، قال تعالى: فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم قال: ثم أفيضوا والإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام؟ وأجاب الزمخشري بأن موقع (ثم) نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، تأتي بـ(ثم) لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال: ثم أفيضوا لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ، وأجاب غيره بأن (ثم) بمعنى الواو، واختاره الطحاوي، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون. وقال الخطابي: تضمن قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة إنما تكون عن اجتماع قبله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فدفعوا إلى عرفات" بلفظ المجهول؛ أي: أمروا بالذهاب إلى عرفات حيث قيل لهم ثم أفيضوا من وفي رواية الكشميهني: (فرفعوا) بالراء، وفي رواية مسلم من طريق أبي أسامة، عن هشام: رجعوا إلى عرفات، والمعنى أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها، ثم يفيضوا منها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه الوقوف بعرفة، وهو من أعظم أركان الحج ثبت ذلك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم- وقوله؛ أما فعله: فروى الإمام أحمد، حدثنا روح، حدثنا زكرياء بن إسحاق، أخبرنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع يعقوب بن عاصم بن عروة يقول: سمعت الشريد يقول: أشهد لوقفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعرفات، قال: فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا، والشريد بفتح الشين المعجمة وكسر الراء: ابن سويد الثقفي.

                                                                                                                                                                                  وقال الطبري: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن ربيعة، عن أبيه، رجل من قريش، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقف بعرفة موضعه الذي رأيته يقف فيه في الجاهلية. وأما قوله: فرواه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعرفة فقال: هذه عرفة، وهو الموقف، وعرفة كلها موقف، الحديث.

                                                                                                                                                                                  وروى ابن حبان في صحيحه من حديث جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " كل عرفات موقف فارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف فارفعوا عن محسر، وكل أيام منى منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح". وفي هذه الأحاديث تعيين عرفة للوقوف، وأنه لا يجزئ الوقوف بغيرها، وهو قول أكثر أهل العلم. وحكى ابن المنذر، عن مالك أنه يصح الوقوف بعرنة، بضم العين والنون، والحديث المذكور حجة عليه، وحد عرفة ما رواه الأزرقي في تاريخ مكة بإسناده إلى ابن عباس قال: حد عرفة من قبل المشرق على بطن عرنة إلى جبال عرنة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق إلى وادي عرنة. ووصيق بفتح الواو وكسر الصاد المهملة بعدها ياء آخر الحروف، وفي آخره قاف، وقال الشافعي في الأوسط من مناسكه: وعرفة ما جاوز بطن عرنة، وليس الوادي ولا المسجد منها إلى الجبال المقابلة مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس بعرفة، والحضن بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة المفتوحتين، وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز، وكان له حائط نخل، وكان فيها عين، قال المحب الطبري: وهو الآن خراب، وقال ابن بطال: اختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف بها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد في الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر والنهار من يوم عرفة تبع، فإن وقف جزأ من الليل أي جزء كان قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وقال أبو حنيفة والثوري والشافعي: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع، فإن وقف جزأ من النهار أجزأه، وإن وقف جزأ من الليل أجزأه إلا أنهم يقولون: إن وقف جزأ من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزأ من الليل دون النهار لم يجب عليه دم. وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء الليل وأجزاء النهار، وقال ابن قدامة: وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم؛ منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن جريج: عليه بدنة، وقال الحسن بن أبي الحسن: عليه هدي من الإبل، فإن دفع قبل الغروب، ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس، فلا دم عليه، [ ص: 6 ] (فإن قلت): روى نافع، عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج . وعن عروة بن الزبير مثله ورفعه ابن عمر مرة: " من فاته عرفات بليل فقد فاته الحج ". وعن عمرو بن شعيب رفعه قال: " من جاوز وادي عرفة قبل أن تغيب الشمس فلا حج له "، وعن معمر، عن رجل، عن سعيد بن جبير رفعه: " إنا لا ندفع حتى تغرب الشمس " يعني من عرفات. (قلت): ابن حزم ضعف هذه كلها ووهاها. وعن عروة بن مضرس الطائي مرفوعا: " من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ". رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ، والله تعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية