الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1813 21 - (حدثنا مسدد قال: حدثنا معتمر قال: سمعت إسحاق يعني ابن سويد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ح، وحدثني مسدد قال: حدثنا معتمر عن خالد الحذاء، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان وذو الحجة).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، ورواه البخاري من طريقين؛ أحدهما: عن مسدد عن معتمر بن سليمان البصري، عن إسحاق بن سويد العدوي، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أبي بكرة، واسمه نفيع، تصغير النفع، بالنون والفاء والعين المهملة، الثقفي، وقد مر كلاهما، وعبد الرحمن أول مولود ولد بالبصرة بعد بنائها، وقد مر في العلم، والآخر عن مسدد، عن معتمر، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة.. إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الصوم أيضا عن أبي بكرة، عن معتمر به، وعن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد، عن يزيد بن زريع به، وأخرجه الترمذي فيه عن يحيى بن خلف، عن بشر بن الفضل، عن خالد الحذاء به، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه فيه عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع به، وإنما اختار البخاري سياق المتن على لفظ خالد دون إسحاق بن سويد؛ لكونه لم يختلف في سياقه عليه، كذا قاله بعضهم. (قلت): كلا الطريقين صحيح عند البخاري، ولكنه انفرد بإخراجه من حديث إسحاق بن سويد وبقية الجماعة غير النسائي، أخرجوه من حديث خالد الحذاء، فيمكن أن يكون اختياره سوق المتن على لفظ خالد لهذا المعنى، ومع هذا شك بعض الرواة في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا؛ ولهذا حسنه الترمذي ولم يصححه؛ لما وقع فيه من الاختلاف في وصله وإرساله ورفعه ووقفه، والاختلاف في لفظه، وقال شيخنا: ولا أعلم من رواه عن أبي بكرة غير ابنه عبد الرحمن، ورواه عن عبد الرحمن جماعة منهم خالد الحذاء، وإسحاق بن سويد، وعلي بن يزيد بن جدعان، وسالم أبو حاتم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الرحمن بن إسحاق، كلهم أسنده عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث خالد الحذاء، وانفرد به البخاري من حديث إسحاق بن سويد، ورواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير من رواية علي بن زيد وسالم بن أبي حاتم، ويكنى أيضا أبا عبد الله، ورواه الطبراني من رواية عبد الملك بن عمير، ورواه البزار في مسنده من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، وقال البزار في مسنده: وهذا الكلام لا نعلم رواه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا أبو بكرة نحو كلامه بغير لفظه. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقد روى أبو شيبة عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شهر [ ص: 285 ] حرام تام ثلاثين يوما وثلاثين ليلة " رواه ابن عدي في (الكامل) في ترجمة عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، ونقل تضعيفه عن أحمد ويحيى والبخاري والنسائي، وذكر أبو عمر في التمهيد هذا الحديث، وقال: لا يحتج بهذا، فإنه يدور على عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف، قال شيخنا: ليس مداره عليه كما ذكر، وأيضا فقد اختلف عليه فيه، فروي عنه بهذا اللفظ كما تقدم، وروي عنه باللفظ المشهور، رواه البزار في مسنده كذلك، قال: حدثنا عمرو بن مالك، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شهرا عيد لا ينقصان؛ رمضان وذو الحجة"، وأما متابعته على اللفظ الآخر: " كل شهر حرام" فرواه الطبراني في (الكبير)، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا سعيد بن سليمان، عن هشيم، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شهر حرام لا ينقص ثلاثين يوما وثلاثين ليلة " ورجال إسناده كلهم ثقات، وأحمد بن يحيى وثقه أحمد بن عبد الله الفرائضي، وباقيهم رجال الصحيح.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " شهران" مبتدأ، و"لا ينقصان" خبره، قوله: " شهرا عيد" كلام إضافي خبر مبتدأ محذوف، يعني: هما شهرا عيد، ويجوز أن يكون ارتفاعه على البدلية. قوله: " رمضان" مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدهما رمضان، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، وقد مر الكلام فيه مستوفى. قوله: " وذو الحجة" كذلك خبر مبتدأ محذوف؛ أي: والآخر ذو الحجة، وقال ابن الجوزي: (فإن قيل): كيف سمي شهر رمضان شهر عيد وإنما العيد في شوال؟ فقد أجاب عنه الأثرم بجوابين؛ أحدهما: أنه قد يرى هلال شوال بعد الزوال من آخر يوم رمضان، والثاني: لما قرب العيد من الصوم أضافته العرب إليه بما قرب منه. (قلت): في بعض ألفاظ الحديث التصريح بأن العيد في رمضان، رواه أحمد في (مسنده)، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت خالدا الحذاء يحدث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شهران لا ينقصان في كل واحد منهما عيد؛ رمضان وذو الحجة " وهذا إسناده صحيح.

                                                                                                                                                                                  وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث على أقوال، فقال بعضهم: معناه أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب، وقال بعضهم: معناه أنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان إن كان أحدهما تسعا وعشرين كان الآخر ثلاثين على الكمال، وقال بعضهم: إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة، فإنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان، وقال ابن حبان: لهذا الخبر معنيان، أحدهما: أن شهري عيد لا ينقصان في الحقيقة وإن نقصا عندنا في رأي العين عند الحائل بيننا وبين رؤية الهلال بقترة أو ضباب، والمعنى الثاني: أن شهري عيد لا ينقصان في الفضائل، يريد أن عشر ذي الحجة على الفضل كشهر رمضان. وقال الطحاوي: معناه: لا ينقصان وإن كانا تسعا وعشرين يوما، فهما كاملان؛ لأن في أحدهما الصيام وفي الآخر الحج، وأحكام ذلك كله كاملة غير ناقصة، وعن المازري: معناه لا ينقصان في عام واحد بعينه، وعن الخطابي: قيل: لا ينقص أجر ذي الحجة عن أجر رمضان لفضل العمل في العشر. وقال الطحاوي : روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل شهر حرام ثلاثون " فقال: وليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق لا يقاوم خالدا الحذاء، ولأن العيان يمنعه. وقال الكرماني: (فإن قلت): ذو الحجة إنما يقع الحج في العشر الأول منه فلا دخل لنقصان الشهر وتمامه فيه، بخلاف رمضان، فإنه يصام كله مرة فيكون تاما ومرة يكون ناقصا. (قلت): قد تكون أيام الحج من الإغماء والنقصان مثل ما يكون في آخر رمضان، بأن يغمى هلال ذي القعدة ويقع فيه الغلط بزيادة يوم أو نقصانه، فيقع عرفة في اليوم الثامن أو العاشر منه، فمعناه أن أجر الواقفين بعرفة في مثله لا ينقص عما لا غلط فيه. وقال ابن بطال: قالت طائفة: من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف في يوم قبل يوم عرفة أو بعده أنه يجزئ عنه؛ لأنهما لا ينقصان عند الله من أجر المتعبدين بالاجتهاد، كما لا ينقص أجر رمضان الناقص، وهو قول عطاء والحسن وأبي حنيفة والشافعي، احتج أصحابه على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور أنه جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده، وعن ابن القاسم: أنهم إن أخطئوا ووقفوا بعد يوم عرفة يوم النحر يجزيهم، وإن قدموا الوقوف يوم التروية أعادوا الوقوف من الغد ولم يجزهم، وهذا تخرج على أصل تلك فيمن التبست عليه الشهور فصام رمضان ثم تيقن له أنه أوقعه بعد رمضان أنه يجزيه ولا يجزيه إذا [ ص: 286 ] أوقعه قبل رمضان، كمن اجتهد وصلى قبل الوقت أنه لا يجزيه، وقال بعض العلماء: إنه لا يقع وقوف الناس اليوم الثامن أصلا؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الوقوف برؤية أو بإغماء، فإن كان برؤية وقفوا اليوم التاسع، وإن كان بإغماء وقفوا اليوم العاشر.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما الحكمة في تخصيص الشهرين بالذكر؟ (قلت): قال البيهقي: إنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه قطع النووي. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في غيرهما من الشهور، وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص، وإنما المراد رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال وقوع الخطأ فيها، ومن ثمة قال: " شهرا عيد" بعد قوله: " شهران لا ينقصان"، ولم يقتصر على قوله: " رمضان وذو الحجة".

                                                                                                                                                                                  وفيه حجة لمن قال: إن الثواب ليس مرتبا على وجود المشقة دائما، بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب، ومنه استدل بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة، قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة، فاكتفى له بالنية. ومما يستفاد من هذا الحديث: أنه يقتضي التسوية في الثواب بين الشهر الكامل وبين الشهر الناقص، فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية