الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1606 274 - حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم [ ص: 31 ] ابن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم- مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فطاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعا، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى ونحر هديه يوم النحر وأفاض، فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أهدى وساق الهدي من الناس.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " فساق معه الهدي".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم ستة كلهم قد ذكروا غير مرة، والليث هو ابن سعد، وعقيل، بضم العين، ابن خالد، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول في موضع واحد. قوله: " عن عقيل" ، وفي رواية مسلم من طريق شعيب بن الليث، عن أبيه: حدثني عقيل، وفيه أن شيخه يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير أبو زكرياء المخزومي المصري، وفيه أن الليث أيضا مصري، وعقيل أيلي، وابن شهاب وسالم مدنيان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم وأبو داود جميعا في الحج أيضا، عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده به، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي، عن حجين بن المثنى، عن الليث به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" . قال المهلب: معناه: أمر بذلك كما تقول: رجم ولم يرجم؛ لأنه كان ينكر على أنس قوله: " إنه قرن" ويقول: بل كان مفردا، وأما قوله: وبدأ بالعمرة؛ فمعناه أمرهم بالتمتع، وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر رضي الله عنهما، قيل: هذا التأويل من أبعد التأويلات والاستشهاد عليه بقوله: رجم وإنما أمر بالرجم، من أوهن الاستشهادات؛ لأن الرجم وظيفة الإمام، فالذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع، فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون معنى قوله: تمتع، محمولا على مدلوله اللغوي، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها، انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): كل هذا الذي ذكر لا يشفي العليل ولا يروي الغليل، بل الأوجه هنا ما قاله النووي، وهو أن معنى تمتع أنه - صلى الله عليه وسلم- أحرم بالحج مفردا، ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا في آخر عمرة، والقارن هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى؛ لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل جمعا بين الأحاديث، وأما لفظ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فهو محمول على التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرم أول مرة بالعمرة، ثم أحرم بالحج؛ لأنه يؤدي إلى مخالفة الأحاديث الأخر، ويؤيد هذا التأويل لفظ: وتمتع الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أنهم أحرموا أولا بالحج مفردا، وإنما فسخوا إلى العمرة آخرا وصاروا متمتعين. وقوله: " فتمتع الناس" يعني في آخر أمرهم. (قلت): هذا الحديث أخرجه البيهقي في سننه الكبرى من حديث الليث، عن عقيل إلى آخره نحوه، ثم قال: وقد روينا عن عائشة وابن عمر ما يعارض هذا، وهو الإفراد وحيث لم يتحلل [ ص: 32 ] من إحرامه إلى آخر شيء، ففيه دلالة على أنه لم يكن متمتعا. (قلت): هذا لا يرد على فقهاء الكوفة؛ لأن عندهم المتمتع إذا أهدى لا يتحلل حتى يفرغ من حجه، وهذا الحديث أيضا ينفي كونه مفردا؛ لأن الهدي لا يمنع المفرد من الإحلال، فهو حجة على البيهقي.

                                                                                                                                                                                  وفي الاستذكار: لا يصح عندنا أن يكون متمتعا إلا تمتع قران؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه - صلى الله عليه وسلم- لم يتحلل من عمرته وأقام محرما من أجل هديه، وهذا حكم القارن لا المتمتع، وفي شرح الموطأ لأبي الحسن الإشبيلي: ولا يصح عندي أن يكون - صلى الله تعالى عليه وسلم- متمتعا إلا تمتع قران؛ لأنه لا خلاف أنه لم يحل من عمرته حتى أمر أصحابه أن يحلوا ويفسخوا حجهم في عمرة، وفسخ الحج في العمرة خص به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز اليوم أن يفعل ذلك عند أكثر الصحابة وغيرهم؛ لقوله تعالى: وأتموا الحج يعني لمن دخل فيه، وما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود دون سائر الفقهاء، وقد مر الكلام فيه مستقصى في باب التمتع والقران. قوله: " فساق معه الهدي من ذي الحليفة" ، وهو الميقات، قوله: " وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأهل بالحج " قال ابن بطال: إنما يريد أنه بدأ حين أمرهم بالتمتع أن يهلوا بالعمرة أول، ويقدموها قبل الحج، وأن ينشئوا الحج بعدها إذا حلوا منها، قوله: " وبالصفا والمروة" ظاهر في وجوب السعي، قوله: " فتمتع الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم-" ؛ أي: بحضرته، قوله: " وليقصر" على صورة أمر الغائب، وكذا في رواية مسلم، وفي رواية أبي ذر: " ويقصر" على صورة المضارع، وقال الكرماني: بالرفع والجزم. (قلت): وجه الرفع أن يكون المضارع على أصله لتجرده عن النواسخ، والتقدير: وبعد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة يقصر من التقصير، وهو أخذ بعض شعر رأسه، ووجه الجزم أن يكون عطفا على المجزوم قبله، ويكون في التقدير وليقصر.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: لم خصص التقصير، والحلق جائز بل أفضل؟ وأجاب بأنه أمره بذلك ليبقي له شعر يحلقه في الحج، فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة. قوله: " وليحلل" صورته أمر ومعناه الخبر، يعني صار حلالا، فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الإحرام، قوله: " ثم ليهل بالحج" ؛ أي: بعد تقصيره وتحلله يحرم بالحج، وإنما أتى بلفظ (ثم) الدال على التراخي؛ ليدل على أنه لا يلزم أن يهل بالحج عقيب إحلاله من العمرة، قوله: " فمن لم يجد هديا" ؛ أي: لم يجده هناك إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، قوله: " فليصم ثلاثة أيام في الحج" ، وهو اليوم السابع من ذي الحجة والثامن والتاسع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وسبعة " أي: وليصم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وبظاهره أخذ الشافعي؛ لأن المراد حقيقة الرجوع، وقال أصحابنا في قوله تعالى: وسبعة إذا رجعتم معناه إذا فرغتم من أفعال الحج، والفراغ سبب الرجوع، فأطلق المسبب على السبب، فلو صام هذه السبعة بمكة فإنه يجوز عندنا، وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن ينوي الإقامة بها، فإن لم يصم الثلاثة في الحج إلى يوم النحر تعين الدم، فلا يجوز أن يصوم الثلاثة ولا السبعة بعدها، وقال الشافعي: يصوم الثلاثة بعد هذه الأيام، يعني أيام التشريق. وقال مالك: يصومها في هذه الأيام، قلنا: النهي المعروف عن صوم هذه الأيام، ولا يؤدى بعدها أيضا؛ لأن الهدي أصل، وقد نقل حكمه إلى بدل موصوف بصفة وقد فاتت، فعاد الحكم إلى الأصل، وهو الهدي، وفي شرح الموطأ للإشبيلي: ووقت هذا الصوم من حين يحرم بالحج إلى آخر أيام التشريق، والاختيار تقديمه في أول الإحرام، رواه ابن الجلاب، وإنما اختار تقديمه لتعجيل إبراء الذمة، ولأنه وقت متفق على جواز الصوم فيه، فإن فاته ذلك قبل يوم النحر صامه أيام منى، فإن لم يصم أيام منى صام بعدها، قاله علي وابن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وبه قال الشافعي، وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه أجاز للمتمتع أن يصوم في العشر وهو حلال، وقال مجاهد وطاوس: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه، وهذان القولان شاذان.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن: اختلف السلف فيمن لم يجد الهدي ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم وطاوس رضي الله تعالى عنهم: لا يجزئه إلا الهدي، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقال ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهما: يصوم أيام منى، وهو قول مالك، وقال علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه-: يصوم بعد أيام التشريق، وهو قول الشافعي، انتهى.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): روى البخاري في كتاب الصوم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، وعن سالم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: لم [ ص: 33 ] يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي، وروى الطحاوي من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر: إنه يصوم أيام التشريق. ورواه البيهقي أيضا في سننه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): روي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب، وأراد بهذه الأيام أيام التشريق، منهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- أخرج حديثه الطحاوي بإسناد حسن عنه أنه قال: خرج منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في أيام التشريق فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب ، وقد أخرج الطحاوي أحاديث نهي الصوم في أيام التشريق عن ستة عشر نفسا من الصحابة، ذكرناهم في شرحنا لمعاني الآثار للطحاوي، وقال الطحاوي: لما ثبت بهذه الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتعا ولا قارنا، دخل فيه المتمتعون والقارنون في ذلك النهي، وأما الحديث الذي رواه سالم عن أبيه مرفوعا فهو ضعيف، وفي سنده يحيى بن سلام نزيل مصر، قال الدارقطني : ضعيف، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فيه مقال، وذكر الطحاوي عن شعبة أن حديث يحيى بن سلام حديث منكر لا يثبته أهل العلم بالرواية؛ لضعف يحيى بن سلام وابن أبي ليلى، وسوء حفظهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فطاف حين قدم مكة" ؛ أي: فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصرح به هكذا في صحيح مسلم، قوله: " واستلم الركن أول شيء" ؛ أي: استلم الحجر الأسود أول ما قدم قبل أن يبتدئ بشيء، قوله: " ثم خب" بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة؛ أي: أسرع في الثلاثة الأول من الأطواف ورمل، قوله: " ومشى أربعا" ، أي: أربع مرات أراد أنه لم يرمل في بقية الأطواف وهي الأربعة، قوله: " فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين" ؛ أي: لما فرغ من أطوافه السبعة صلى عند مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ركعتين، و(قضى) بمعنى: أدى، و(ركعتين) منصوب بقوله: فركع، قوله: " ثم سلم" ؛ أي: عقيب الركعتين، فانصرف وأتى الصفا.

                                                                                                                                                                                  فظاهر الكلام أنه حين فرغ من الركعتين توجه إلى الصفا ولم يشتغل بشيء آخر، وحديث جابر الطويل عند مسلم: " ثم رجع إلى الحجر فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا"، قوله: " حين قضى حجه" أي: بالوقوف بعرفة؛ لأنه من أركان الحج وبرمي الجمرات ونحره هديه يوم النحر، قوله: " وأفاض" ؛ أي: بعد الإتيان بهذه الأفعال أفاض إلى البيت، فطاف به طواف الإفاضة، قوله: " وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " كلمة (ما) مصدرية؛ أي: مثل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفاعل (فعل) هو قوله: " من أهدى" ؛ يعني ممن كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وساق الهدي، وكلمة (من) في (من الناس) للتبعيض؛ لأن كل من كانوا لم يسوقوا الهدي، وقائل هذا الكلام أعني قوله: وفعل.. إلى آخره، هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال بعضهم: وأغرب الكرماني فشرحه على أن فاعل (فعل) هو ابن عمر راوي الخبر. (قلت): لم يشرح الكرماني بهذا الشرح إلا بناء على النسخة التي فيها باب من أهدى وساق الهدي على ما نذكره الآن؛ ولهذا قال: والصحيح هو الأول: يعني أن فاعل (فعل) هو قوله: " من أهدى" .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية