الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                216 ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن ابن المجمر قال: " رأيت أبا هريرة يتوضأ مرة، وكان إذا غسل ذراعيه كاد أن يبلغ نصف العضد، ورجليه إلى نصف الساق، فقلت له في ذلك، فقال: أريد أن أطيل غرتي، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، ولا يأتي أحد من الأمم كذلك". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أبو الأسود النضر بن عبد الجبار ، ثقة.

                                                وعبد الله بن لهيعة فيه مقال.

                                                وعمارة بن غزية روى له مسلم .

                                                وابن المجمر هو نعيم بن عبد الله المجمر ، بضم الميم، وسكون الجيم، وكسر الميم الثانية، ويقال: بتشديد الميم ، ثم هو صفة عبد الله والد نعيم في رواية الطحاوي ، وبه جزم ابن حبان في كتاب "الثقات" وكذلك جزم النووي في شرح مسلم بأن المجمر صفة لعبد الله ، وتطلق على ابنه نعيم مجازا، قال ذلك مع جزمه أولا بأن نعيما هو كان يبخر المسجد ووقع في رواية البخاري ومسلم عن نعيم المجمر ، فوقع المجمر صفة له، والصحيح أن المجمر صفة لأبيه عبد الله ، كما في رواية الطحاوي ; لأنه كان يأخذ المجمر قدام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا خرج إلى الصلاة في رمضان، ونعيم هو ابن المجمر ، روى له الجماعة.

                                                وأخرجه البخاري : ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث ، عن خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر قال: "رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد، [ ص: 359 ] فتوضأ وقال: إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" .

                                                وأخرجه مسلم : حدثني هارون بن سعيد الأيلي ، قال: حدثني ابن وهب ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم بن عبد الله : "أنه رأى أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه ويديه (إلى) المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت ... " إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه النسائي : عن قتيبة ، عن مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعد، وأنا فرطهم على الحوض ، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل بهم دهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض " .

                                                قلت: هذا الحديث رواه أيضا عبد الله بن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو أمامة الباهلي ، وأبو الدرداء :

                                                فحديث عبد الله عند ابن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال: "قلت: يا رسول الله، كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: هم غر [محجلون] بلق من آثار الوضوء" .

                                                [ ص: 360 ] وحديث جابر عند البزار : عن إسماعيل بن حفص الأيلي ، عن يحيى بن اليمان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر قال: "قيل: يا رسول الله، كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: غرا -أحسبه قال-: محجلون من آثار الوضوء" .

                                                وحديث أبي سعيد عند الطبراني في "الأوسط": بإسناده إليه قال: "قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: غر محجلون من الوضوء" .

                                                وحديث أبي أمامة عنده أيضا في "الكبير": بإسناده إليه قال: "قلت يا رسول الله، أتعرف أمتك يوم القيامة؟ قال: نعم. قلت: من رأيت ومن لم تر؟ قال: من رأيت ومن لم أر، قلت: بماذا؟ قال: غر محجلون من آثار الوضوء" .

                                                ورواه أحمد أيضا في "مسنده".

                                                وحديث أبي الدرداء عند أحمد والطبراني أيضا: بإسناد فيه ابن لهيعة فقال أبو الدرداء : قال رسول الله - عليه السلام -: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يرفع رأسه، فأنظر (بين) يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي [مثل] ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك، فقال رجل: كيف تعرف أمتك يا رسول الله من بين سائر الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس لأحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم".

                                                [ ص: 361 ] قوله: "نصف العضد" يجوز فيه ضم الضاد وسكونها، وقال الجوهري العضد الساعد، وهي من المرفق إلى الكتف، فيه أربع لغات: عضد، وعضد، مثل: حذر، وحذر، وعضد، وعضد، مثل: ضعف، وضعف، وعضدته أعضده -بالضم- أعنته، والساق ساق القدم، والجمع سوق وسيقان وأسوق.

                                                قوله: "غرتي" الغرة بياض في جبهة الفرس، والحجل بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرا وتحجيلا; تشبيها بذلك، وقيل: الأغر من الخيل الذي غرته أكثر من الدرهم، قد وسطت جبهته ولم تصب واحدة من العينين، ولم تمل على واحد من الخدين، ولم تسل سفلى، وهي أفشى من القرحة، وقال بعضهم: بل يقال للأغر: أغر أقرح; لأنك إذا قلت: أغر فلا بد من أن تصف الغرة بالطول والعرض، والصغر والعظم والدقة، وكلهن غرر، فالغرة جامعة لهن، وغرة الفرس: البياض يكون في وجهه، فإن كان [مدورة فهي] وتيرة، وإن [كانت] طويلة فهي شادخة.

                                                وفي "الصحاح": الوتيرة الوردة البيضاء، ووتره حقه أي نقصه.

                                                والأغر: الأبيض من كل شيء، وقد غر وجهه يغر -بالفتح- غررا، وغرة، وغرارة: صار ذا غرة.

                                                والتحجيل بياض يكون في قوائم الفرس كلها، وقيل: هو أن يكون البياض في ثلاث قوائم منهن دون الأخرى، في رجل ويدين، ولا يكون التحجيل في اليدين خاصة إلا مع الرجلين، ولا في يد واحدة دون الأخرى إلا مع الرجلين، والتحجيل بياض قل أو كثر حتى يبلغ نصف الوظيف ويكون سائره ما كان.

                                                وفي "الصحاح": يجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين، ولا العرقوبين.

                                                [ ص: 362 ] وفي "المغيث" لأبي موسى المديني فإذا كان البياض في طرف اليد فهو العصمة، يقال: فرس أعصم.

                                                قوله: "إن أمتي" الأمة تطلق على أمة الدعوة، وعلى أمة الأتباع، والمراد ها هنا أمة أتباعه - عليه السلام - جعلنا الله منهم، والأمة في اللغة: الجماعة، قال الأخفش : هو في اللفظ واحدة والمعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وفي الحديث: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" .

                                                قوله: "يوم القيامه" يوم: من الأسماء الشاذة؛ لوقوع الفاء والعين فيه حرفي علة، فهو من باب "ويل" و"ويح" وهو اسم لبياض النهار، وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، و"القيامة": فعالة من قام يقوم، وأصلها قوامة، قلبت الواو ياء; لانكسار ما قبلها.

                                                قوله: "غرا" بضم الغين جمع أغر.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: المراد بالغرة غسل شيء من مقدم الرأس، وما تجاوز الوجه زائدا على الجزء الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه ، وبالتحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين. وادعى ابن بطال، ثم القاضي عياض ، ثم ابن التين - اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب، وهي دعوى باطلة، فقد ثبت ذلك من فعل رسول الله - عليه السلام - وأبي هريرة ، وعمل العلماء وفتواهم عليه، فهم محجوجون بالإجماع، واحتجاجهم بقوله: - عليه السلام - "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" لا يصح; لأن المراد به الزيادة في عدد المرات، أو النقص عن الواجب، أو الثواب [ ص: 363 ] المرتب على نقص العدد، لا الزيادة على تطويل الغرة والتحجيل، وأما حد الزيادة فغايته استيعاب العضد والساق، وقال جماعة من أصحاب الشافعي : يستحب إلى نصفهما. وقال البغوي : نصف العضد فما فوقه، ونصف الساق فما فوقه.

                                                وقال النووي اختلف أصحابنا في القدر المستحب على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيف. وثانيها: إلى نصف العضد والساق. وثالثها: إلى المنكب والركبتين، والأحاديث تقتضي ذلك كله.

                                                وقال الشيخ تقي الدين القشيري ليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين، وقد استعمله أبو هريرة على إطلاقه فغسل إلى قريب من المنكبين، ولم ينقل ذلك عن النبي - عليه السلام - ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين; فلذلك لم يقل به أحد من الفقهاء، ورأيت بعض الناس قد ذكر أن حد ذلك نصف العضد والساق.

                                                قلت: قوله: "لم يقل به أحد من الفقهاء" غريب على ما قدمنا عنهم آنفا عن أصحاب الشافعي .

                                                فإن قيل: لم اقتصر أبو هريرة على قوله: "أريد أن أطيل غرتي" ولم يذكر التحجيل؟

                                                قلت: هو من باب الاكتفاء للعلم به، كما في قوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر ولم يقل: والبرد; للعلم به، والمعنى تقيكم الحر والبرد.

                                                وقد قيل: إن هذا من باب التغليب بالذكر لأحد الشيئين على الآخر، وإن كانا بسبيل واحد للترغيب فيه. وقد استعمل الفقهاء ذلك وقالوا: يستحب تطويل الغرة ، ومرادهم الغرة والتحجيل، وفيه نظر؛ لأن التغليب اجتماع الاسمين أو [ ص: 364 ] الأسماء وتغليب أحدهما على الآخر، نحو: القمرين والعمرين، وهنا لم يذكر إلا اسم واحد، وقد يجاب بأنها خصت بالذكر؛ لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة.

                                                فإن قيل: الوضوء من خصائص هذه الأمة أم كان أيضا لأحد من الأمم؟

                                                قلت: استدلت جماعة من العلماء بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وبه جزم الحليمي في "منهاجه" وقال آخرون: ليس الوضوء مختصا بهذه الأمة، وإنما الذي اختصت به: الغرة والتحجيل، واحتجوا بقوله - عليه السلام -: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي" وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:

                                                أحدهما: أنه ضعيف.

                                                والثاني: أنه لو صح لاحتمل اختصاص الأنبياء عليهم السلام دون أممهم بخلاف هذه الأمة، وفيه شرف عظيم لهم; حيث استووا مع الأنبياء - عليهم السلام - في هذه الخصوصية، وامتازت بالغرة والتحجيل، ولكن ورد في الحديث في شأن جريج العابد "أنه توضأ وصلى" وفيه دلالة على أن الوضوء كان مشروعا لهم، فعلى هذا تكون خاصية هذه الأمة الغرة والتحجيل الناشئين عن الوضوء لا الوضوء، ونقل الزناتي المالكي شارح "الرسالة" عن العلماء: أن الغرة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم و[من] لم يتوضأ، كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، إن أهل القبلة كل من آمن به من أمته، سواء صلى أو لم يصل، وهذا نقل غريب، فظاهر الأحاديث يقتضي خصوصية ذلك لمن توضأ منهم.

                                                [ ص: 365 ] الحكم الثاني: استحباب المحافظة على الوضوء، وسننه المشروعة فيه، وإسباغه.

                                                الثالث: فيه ما أعد الله تعالى من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة .

                                                الرابع: فيه دلالة قطعية أن وظيفة الرجلين غسلهما، ولا يجزئ مسحهما ، فافهم.




                                                الخدمات العلمية