الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                133 ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أخبرنا ابن عون ، عن عامر ، عن ابن المغيرة بن شعبة ، عن أبيه .

                                                وابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عمرو بن وهب ، عن المغيرة بن شعبة رفعه إليه قال: " كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فتوضأ للصلاة، فمسح على عمامته، وقد ذكر الناصية بشيء". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج الطحاوي هذا عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد ، ويزيد هذا أخرجه من طريقين:

                                                الأول: عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني ، عن عامر الشعبي ، عن ابن المغيرة ، واسمه حمزة ، ويقال: عروة ، وقال القاضي عياض : حمزة بن المغيرة هو الصحيح، وعروة بن المغيرة في الأحاديث الأخرى، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة ، والحديث مروي عنهما جميعا لكن رواية بكر بن عبد الله المزني إنما هي عن حمزة ابن المغيرة .

                                                قلت: رواية بكر بن عبد الله عنه رواها أبو داود ، والطبراني ، ولكن أبا داود ما صرح بحمزة وإنما قال: ابن المغيرة ، كرواية الطحاوي ، وصرح الطبراني بحمزة بن المغيرة ، وبعروة بن المغيرة أيضا، وكذا صرح النسائي بحمزة بن المغيرة في رواية بكر بن عبد الله المزني عنه، وصرح بعروة بن المغيرة في رواية عامر الشعبي عنه، وكذا صرح مسلم في رواية بكر بعروة بن المغيرة على ما مر عن قريب. فعلى هذا يحتمل في رواية الطحاوي أن يكون حمزة ، ويحتمل أن يكون عروة ; لأن روايته ليس فيها بكر بن عبد الله المزني ، فافهم.

                                                [ ص: 275 ] الثاني: عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عمرو بن وهب ، عن المغيرة بن شعبة .

                                                فكالطريق الأول أخرجه الطبراني : عن معاذ بن المثنى بن معاذ ، عن أبيه، عن ابن عون ، عن محمد والشعبي ، عن عروة بن المغيرة في حديث طويل، وفيه قال ابن عون : "وذكر من ناصيته وعمامته شيئا لا أدري أصبته أم لا، ومسح على خفيه" .

                                                وأخرجه أيضا: عن محمد بن أحمد بن البراء ، ثنا المعافى بن سليمان ، نا موسى بن أعين ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن المغيرة بن شعبة ، عن أبيه قال: "كنت أسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ... " الحديث، وفيه: "فتوضأ فغسل يديه ووجهه وذراعيه، ومسح على خفيه" .

                                                وكالطريق الثاني: أخرجه أحمد في "مسنده": عن يزيد بن هارون ، عن هشام ، عن محمد ، عن عمرو بن وهب الثقفي في حديث طويل، وفيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين" .

                                                قوله: "في سفر" صرح في رواية أبي داود أنه كان في غزوة تبوك قال: ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال: حدثني عباد بن زياد أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره [أنه سمع أباه] المغيرة بن شعبة يقول: "عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي - عليه السلام - فتبرز، ثم جاء فسكبت على يديه من الإداوة، فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حسر عن ذراعيه فضاق كما جبته، فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه ..." الحديث.

                                                [ ص: 276 ] ثم إنهم استدلوا بهذه الأحاديث أن فرض المسح هو مقدار الناصية ، وقال النووي هذا مما احتج به أصحابنا على أن مسح بعض الرأس يكفي ولا يشترط الجميع.

                                                قلت: هذا حجة عليهم لا لهم; لأن الفرض عندهم أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، وها هنا قد نص على الناصية، وهو مقدار الربع، وقال ابن قدامة احتج من أجاز البعض بأن المغيرة بن شعبة روى أن النبي - عليه السلام - مسح بناصيته وعمامته، ولأن من مسح ببعض رأسه يقال: مسح برأسه كما يقال: مسح برأس اليتيم، وقبل رأسه، وزعم بعض من ينصر ذلك أن الباء للتبعيض، ولنا ظاهر قوله تعالى: برءوسكم وأرجلكم والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤسكم. فيتناول الجميع، كما قال [في التيمم] : بوجوهكم وأيديكم قال بعض أهل العربية: من جعل الباء للتبعيض أدخل في اللغة ما ليس منها، وقال ابن برهان (من زعم) أن "الباء" تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه، وحديث المغيرة يدل على جواز المسح على العمامة ، ونحن نقول به، وأيضا فإن النبي - عليه السلام - لما توضأ مسح برأسه كله، وهذا خرج من النبي - عليه السلام - مخرج البيان; فدل على وجوبه، وما ذكروه من اللفظ مجاز، لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بدليل. انتهى.

                                                قلت: اتفق الشافعي مع أبي حنيفة في البعضية، ولكن عند الشافعي : أقله ما ينطلق عليه اسم المسح، ولو بعض شعره.

                                                وفي "الروضة" الواجب في مسح الرأس ما ينطلق عليه الاسم ولو بعض شعره أو قدره من البشرة، وفي وجه شاذ: يشترط ثلاث شعرات، وشرط الشعر الممسوح ألا يخرج عن حد الرأس لو مد، سبطا كان أو جعدا. انتهى.

                                                [ ص: 277 ] وعند أبي حنيفة : الفرض مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، قال صاحب "الهداية": والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وفي بعض الروايات: قدره أصحابنا بثلاث أصابع، وهو ظاهر الرواية، وهو المذكور في الأصل، وهو رواية عن محمد ، ذكرها ابن رستم في نوادره، وإذا وضع ثلاث أصابع ولم يمدها جاز في قول محمد في الرأس والخف جميعا، ولم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف حتى يمدها مقدار ما تصيب البلة ربع رأسه، فهما اعتبرا الممسوح عليه، ومحمد اعتبر الممسوح به، وهو عشر أصابع ربعها أصبعان ونصف، إلا أن الأصبع الواحدة لا تجزأ، فجعل المفروض قدر ثلاث أصابع لهذا، فالحاصل أن علمائنا اتفقوا في اعتبار الربع، لكنهما اعتبرا ربع المحل، ومحمد اعتبر ربع الآلة، وما قالاه مرجح; لأن المذكور في النص هو الرأس، فالاعتبار لما هو المذكور فيه أولى.

                                                وفي "البدائع": ولو مسح بثلاثة أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لم يجز؛ لأنه لم يأت بالقدر المفروض، ولو مدها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عندنا وعند زفر يجوز، وعلى هذا الخلاف إذا مسح بأصبع أو أصبعين ومدهما حتى بلغ مقدار المفروض، ولو مسح بأصبع واحدة ببطنها وظهرها وجانبيها لم يذكر في ظاهر الرواية، واختلف المشايخ، فقال بعضهم: لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز، وهو الأصح، ولو مسح على شعره وكان شعره طويلا فإن مسح على ما تحت أذنيه لم يجز، وإن مسح على ما فوقهما يجوز، ولو أصاب رأسه من ماء المطر مقدار المفروض سقط عنه فرض المسح -والله أعلم- ثم إن أصحابنا استدلوا على فرضية ربع الرأس في المسح بحديث المغيرة ; لأن الكتاب مجمل في حق المقدار فقط لأن الباء في وامسحوا للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح، فيتناول جميعه، كما يقول الرجل: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله، وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة، فلا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكل، فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل [ ص: 278 ] المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق، لا بمعنى أن الباء للتبعيض كما قاله البعض. وتحرير الكلام في هذا المقام ما ذكره النحاة: أن الباء تستعمل لمعان كثيرة: أحدها الإلصاق، وقد جعلها الجرجاني أصلا فيه بحيث إنها إذا استعملت في غيره فإنما تكون بقرينة زائدة مع الإشعار بمعنى الإلصاق، فإذا قلت: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم فالباء للاستعانة أي كتبت مستعينا بالقلم، وعملت مستعينا بالقدوم، وفي ذلك معنى الإلصاق، وغير الجرجاني يجعل لها معاني كثيرة، كل واحد منها برأسه، منها أن تكون للتبعيض، ذكره أبو علي في "التذكرة" ويحكى عن الأصمعي في قول الشاعر:


                                                شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج



                                                ومن شواهد ذلك قوله تعالى: عينا يشرب بها عباد الله وقوله: عينا يشرب بها المقربون وقال ابن هشام : أثبت مجيء الباء للتبعيض الأصمعي ، والفارسي ، والقتبي ، وابن مالك -قيل: والكوفيون - وجعلوا منه: عينا يشرب بها عباد الله قيل: ومنه وامسحوا برءوسكم والظاهر أن الباء فيهما للإلصاق، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وأن في الكلام حذفا وقلبا، فإن "مسح" يتعدى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل بالباء، فالأصل امسحوا رؤسكم بالماء، ونظيره بيت اللباب:


                                                كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد



                                                يقول: إن لبابك تضرب إلى سمرة فكأنك مسحتها بمسحوق الإثمد، فقلب معمول مسح.

                                                وقال الزمخشري في يشرب بها المعنى: يشرب بها الخمر، كما تقول: شربت الماء [ ص: 279 ] بالعسل، فإن قيل: سلمنا أن خبر الواحد يصح به بيان مجمل الكتاب، ولكن لا نسلم أن آية الوضوء فيها إجمال; لأن بيان المجمل: ما لا يدرك بيانه إلا من جهة المجمل، ونحن لا نحتاج إلى البيان إذا قلنا بالاستيعاب كما قال مالك ، أو بأقل ما ينطلق عليه المسح كما قال الشافعي ; لأن في الأول عملا بالأقاويل كلها، وفي الثاني عملا بالمتيقن.

                                                قلت: الأول: إنما يكون عملا بالأقاويل إذا كان الاستيعاب فرضا عند الكل، وليس بفرض عند الكل، ولهذا قال أحمد : ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله؟! فحينئذ ينفي الإجمال، والثاني: إنما يكون عملا بالمتيقن إذا كان ذلك الأقل معتبرا، وقد يحصل بغسل الوجه ولا اعتبار له فيبقى الإجمال أيضا، وأما وجه التقدير بالناصية، فلأن مسح جميع الرأس ليس بمراد بالإجماع; لأن عند مالك لو مسح جميع الرأس إلا قليلا منه جاز، فلا يمكن حمل الآية على جميع الرأس، ولا على بعض مطلق، وهو أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما قال الشافعي ; لأن ماسح شعره أو ثلاث شعرات لا يسمى ماسحا في العرف، فلا بد من الحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحا في التعارف، وذلك غير معلوم، فصار فعله - عليه السلام – في حديث المغيرة بيانا لمجمل الكتاب; إذ البيان يكون تارة بالقول وتارة بالفعل، كفعله في هيئة الصلاة، وعدد ركعاتها، وفعله في مناسك الحج، وغير ذلك، فكان المراد من المسح بالرأس مقدار الناصية ببيان النبي - عليه السلام -. فإن قيل: أليس -أي في التيمم- حكم المسح ثبت بقوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم الاستيعاب فيه شرط، قلت: أما على رواية الحسن ، عن أبي حنيفة لا يشترط فيه الاستيعاب؛ لهذا المعنى الذي ذكرناه، وأما على ظاهر الرواية فإنما عرفنا الاستيعاب هناك إما بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذر الغسل، والاستيعاب في الغسل فرض بالنص، فكذا فيما قام مقامه، أو عرفنا ذلك بالسنة، وهو قوله: - عليه السلام - لعمار "يكفيك ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين" .

                                                [ ص: 280 ] فإن قيل: المسح فرض، والمفروض مقدار الناصية، ومن حكم الفرض أن يكفر جاحده، وجاحد المقدار لا يكفر فكيف يكون فرضا؟

                                                قلت: بلى جاحد الفرض كافر، وجاحد المقدار لا يكفر; لأنه في حق المقدار ظني، وأصل المسح قطعي وجاحده كافر. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الناصية كل الرأس كما في قوله تعالى: فيؤخذ بالنواصي والأقدام فإن المراد بها ها هنا الرءوس فيكون المراد من قوله: "ومسح بناصيته": مسح برأسه؟

                                                قلت: الأصل استعمال اللفظ فيما وضع له، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا فائدة ولا قرينة لا يجوز، ولا قرينة ها هنا على أن المراد من الناصية كل الرأس. فإن قيل: كيف استدل أبو حنيفة ببعض الحديث، وترك البعض، ولم يجوز المسح على العمامة؟

                                                قلت: لو عمل بكل الحديث لكان تلزم به الزيادة على النص; لأن هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ، فلا يجوز، وأما المسح على الرأس فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، ولهذا قال مالك في "موطئه": بلغني عن جابر بن عبد الله : "أنه سئل عن العمامة فقال: لا حتى يمس الشعر الماء" .

                                                ورواه عنه محمد في موطئه: ثم قال: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة ، وأما مسحه - عليه السلام - على العمامة فأوله البعض بأن المراد به ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوله البعض بأن الراوي كان بعيدا عن النبي - عليه السلام -فمسح النبي - عليه السلام - على رأسه ولم يضع العمامة في رأسه، فظن الراوي أنه مسح على العمامة، وقال القاضي عياض : وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه - عليه السلام - لعله كان به مرض منعه كشف رأسه فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة، وقال ابن حزم إن ذلك كان في مرات مختلفة لا أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة [ ص: 281 ] معا، بل مسح على العمامة مرة، ومسح على الناصية في مرة أخرى. وفيه نظر; لأنه ليس للتفقه فيه مجال فلا بد من النقل على ذلك، ويمكن أن يقال: إنه مسح مرتين، مرة على الناصية، ومرة على العمامة، كما نقل عنه المسح في غير هذا الحديث تارة مرة، وتارة ثلاثا، ويدل على ذلك تكرار قوله: "فمسح بناصيته" بعد قوله: "فمسح على عمامته" ولم يقل: فمسح على عمامته وناصيته، فافهم.

                                                وقال ابن حزم أيضا ما ملخصه: إن الناس اختلفوا في مسح الرأس ، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء، وقال أبو حنيفة بمسح مقدار ثلاث أصابع، وعنه: ربع الرأس، وقال الثوري : يجزئ في الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة، ويجزئ مسحه بأصبع، وببعض أصبع، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع، وأحب ذلك إلى الشافعي : العموم ثلاث مرات.

                                                وقال أحمد بن حنبل : يجزئ للمرأة أن تمسح بمقدم رأسها. وقال الأوزاعي والليث : يجزئ مسح مقدم الرأس فقط، وقال داود يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح، وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر، وأحب إليه العموم، وهذا هو الصحيح، وعن النخعي : إن أصاب هذا، يعني مقدم رأسه وصدغيه، وعن الشعبي : إن مسح جانب رأسه أجزأه، وروي أيضا عن عطاء ، وصفية بنت أبي عبيد ، وعكرمة ، والحسن ، وأبي العالية ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وغيرهم، ثم قال: ولا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف لما روينا عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط ، ولا حجة لمن خالفنا يعني من روي عنه من الصحابة وغيرهم: مسح جميع رأسه; لأنا لا ننكر ذلك بل نستحبه.

                                                ثم قال: وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس، ولمقدار ثلاث أصابع ففاسد؛ لأنه لا دليل عليه، فإن قالوا: هو مقدار الناصية قلنا لهم: ومن أين لكم بأن هذا هو مقدار الناصية والأصابع تختلف، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة، وهذا باطل.

                                                [ ص: 282 ] قلت: قوله: لأنه لا دليل عليه باطل; لأن مذهب أبي حنيفة الذي روى عنه الطحاوي والكرخي هو مقدار الناصية؛ لحديث المغيرة المذكور، ولهذا قال أبو الحسين القدوري والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وسكت عليه، ولا يلزم من هذا أن تكون الناصية ربع الرأس تحقيقا، وأما إذا كان تقريبا فلا يحتاج إليه; نعم روى الحسن عن أبي حنيفة أن مقدار الناصية هو الربع كما قال به زفر باعتبار أن الرأس لها أربعة أركان: الناصية، والقفا، والفودان، فبهذا الاعتبار تكون الناصية ربع الرأس، ولا يلزم من هذه القسمة أن تكون الناصية ربعا حقيقيا حتى يلزم ما ذكره ابن حزم ، وقد قال ابن فارس : الناصية قصاص الشعر، ثم فسر القصاص بأنه نهاية منبت الشعر من مقدم الرأس، فهذا أعم من أن يكون ربع الرأس على الحقيقة، أو باعتبار أنه أحد الأركان الأربعة، وأما جوازه في غير الناصية فكما أن الرأس كله محل للمسح فلا تتعين الناصية دون غيرها، وإنما الذي تعين هو مقدار الناصية، فافهم.

                                                واستدل بعض الشافعية بالحديث المذكور على استحباب تتميم المسح بالعمامة؛ لتكون الطهارة على جميع الرأس ، ولا فرق عندهم بين أن يكون لبس العمامة على طهر أو على حدث، وكذا لو كان على رأسه قلنسوة ولم ينزعها ومسح بناصيته يستحب أن يتمم على القلنسوة كالعمامة، واستدل به أحمد على جواز المسح على العمامة.

                                                قال ابن المنذر : وممن مسح على العمامة: أبو بكر الصديق ، وبه قال عمر ، وأنس ، وأبو أمامة ، وروي عن سعد بن مالك ، وأبي الدرداء ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة ، ومكحول ، والأوزاعي ، وأبو ثور .

                                                وقال عروة ، والنخعي ، والشعبي ، والقاسم ، ومالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي: لا يجوز المسح عليها.

                                                وفي "المغني": ومن شرائط جواز المسح على العمامة شيئان: أحدهما: أن تكون تحت الحنك، وسواء أرخى لها ذؤابة أو لا، قاله القاضي، ولا فرق بين الصغيرة [ ص: 283 ] والكبيرة إذا وقع عليها الاسم، وقيل: إنما لم يجز المسح على العمامة التي ليس لها حنك; لأن النبي - عليه السلام - أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، قال أبو عبيد : الاقتعاط ألا يكون تحت الحنك شيء، وروي: "أن عمر - رضي الله عنه – رأى رجلا ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقية" وقال الخلال أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين، ويستحب أن يمسح على ما ظهر من الرأس مع المسح على العمامة، نص عليه أحمد ، وقال الخلال وإذا نزع عمامته بعد مسحها بطلت طهارته كما لو نزع الخف بعد مسحه، وكذلك إن انكشف رأسه، نص عليه أحمد إلا أن يكون يسيرا جرت العادة بمثله، مثل: إن حك رأسه أو رفعها لأجل الوضوء، فإن انتقضت العمامة بعد مسحها بطلت طهارته وإن انتقض بعضها، وقال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت طهارته، وهو المنصوص، وقال ابن عقيل : فيه رواية أخرى: لا تبطل.

                                                وأما القلانس فإن كانت طاقية لم يمسح عليها، وأما القلانس المبطنات كدنيات القضاة والنوميات فقال إسحاق بن إبراهيم قال أحمد : لا يمسح على القلنسوة. قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال بالمسح على القلنسوة، إلا أن أنسا مسح على قلنسوته، وروى الأثرم بإسناده، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته" .

                                                وفي جواز المسح للمرأة على الخمار روايتان: إحداهما: يجوز، والثانية: لا يجوز، قاله نافع ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، ولا يجوز المسح على الوقاية قولا واحدا، ولا نعلم فيه خلافا; لأنه لا يشق نزعها. والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية