الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6971 6972 6973 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالبكاء على الميت إذا كان بكاء لا معصية معه من قول فاحش ولا نياحة، واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن الحارث الأنصاري ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتى رسول الله -عليه السلام- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه وجده في غشيته، فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا والله يا رسول الله، فبكى رسول الله -عليه السلام-، فلما رأى القوم بكي رسول الله -عليه السلام- بكوا، فقال: ألا تسمعوا أن الله تعالى لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم".

                                                حدثنا أحمد بن الحسن ، قال: سمعت سفيان يقول: حدثني ابن عجلان ، عن وهب بن كيسان ، عن أبي هريرة: "أن عمر - رضي الله عنه - أبصر امرأة تبكي على ميت فنهاها، فقال له رسول الله -عليه السلام-: دعها يا أبا حفص ، فإن النفس مصابة، والعين بكية، والعهد قريب".

                                                حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- مر بنساء بني الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله -عليه السلام-: لكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء [ ص: 507 ] الأنصار يبكين حمزة ، فاستيقظ رسول الله -عليه السلام- فقال: ويحهن، ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم". .

                                                حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن عمر ، قال: ثنا سفيان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يقبل عثمان بن مظعون بعد موته، ودموعه تسيل على لحيته".

                                                ففي هذه الآثار التي ذكرنا إباحة البكاء على الموتى، وذلك على أن ذلك غير ضار لهم ولا سبب لعذابهم، ولولا ذلك لما بكى رسول الله -عليه السلام- ولا أباح البكاء، ولمنع من ذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى والحسن البصري والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالبكاء على الميت إذا كان بلا صوت ولا قول فاحش، وروي ذلك عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن مسعود وثابت بن زيد وقرظة بن كعب وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهم -.

                                                وإليه ذهب ابن حزم ، وقال في "المحلى": والصبر واجب، والبكاء مباح ما لم يكن نوحا؛ فإن النوح حرام والصياح وخمش الوجوه وضربها وضرب الصدور ونتف الشعر وحلقه للميت، كل ذلك حرام، وكذلك الكلام المكروه الذي هو تسخط لأقدار الله تعالى، وشق الثياب.

                                                قوله: "واحتجوا في ذلك". أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم -.

                                                أما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه من وجهين صحيحين:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب . . . . إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : عن يونس بن عبد الأعلى وعمرو بن سواد العامري، كلاهما عن عبد الله بن وهب . . . . إلى آخره.

                                                [ ص: 508 ] وأخرجه البخاري : عن أصبغ عن عبد الله بن وهب . . . . إلى آخره.

                                                الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى . . . . إلى آخره.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عبيد الله بن موسى، نا أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "رجع رسول الله -عليه السلام- يوم أحد فسمع نساء بني عبد الأشهل يبكين على هلكاهن، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة ، فرقد فاستيقظ فقال: يا ويحهن؛ إنهن لهاهنا حتى الآن؟! مروهن فليرجعن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم".

                                                وأخرجه عن هارون بن سعيد المصري ، عن عبد الله بن وهب .. إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى" أي مرض مرضا. الشكوى والشكو والشكاة والشكاية كلها مصادر بمعنى المرض.

                                                قوله: "في غشيته" وهي ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به حتى يظن أنه قد مات، وأصله من غشاه يغشاه إذا غطاه، وغشي الشيء إذا لابسه، وغشي المرأة إذا جامعها، وغشي عليه فهو مغشي عليه، إذا أغمي عليه.

                                                قال القاضي عياض: روايتنا فيه عن أكثر شيوخنا بكسر الشين وتشديدها، وعند أبي جعفر : غشية بسكون الشين، وفي البخاري : "في غاشيته"، وقال ابن الأثير: الغاشية: الداهية من خير أو شر أو مكروه، ومنه قيل: للقيامة: الغاشية، وأراد في غشية من غشيات الموت، ويجوز أن يريد بالغاشية القوم الحضور عنده الذين يغشونه للخدمة والزيارة لأن أي جماعة غاشية.

                                                وقال الخطابي : الغاشية تحتمل وجهين: من يغشاه من الناس، أو ما يغشاه من الكرب.

                                                [ ص: 509 ] قوله: "فقال: أقد قضى؟ " أي أقد مات؟ والهمزة فيه للاستفهام، وهو على صيغة المعلوم، وأصل معناه: فرغ، يقال: قضى نحبه أي مات، وضربه فقضى عليه أي قتله، كأنه فرغ منه.

                                                وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي نزيل مصر ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن وهب بن كيسان القرشي المعلم ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عفان، ثنا وهيب ، عن هشام بن عروة ، عن وهب بن كيسان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سلمة الأزرق ، عن أبي هريرة قال: "مر على النبي -عليه السلام- بجنازة يبكى عليها -وأنا معه وعمر بن الخطاب - فانتهر عمر - رضي الله عنه - اللاتي تبكين مع الجنازة، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعهن يا ابن الخطاب ؛ فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب".

                                                وأخرجه ابن ماجه : عن ابن أبي شيبة . . . . نحوه. والله أعلم.

                                                واعلم أنه وقع في رواية ابن ماجه بين وهب بن كيسان وبين أبي هريرة شخص واحد، وهو محمد بن عمرو بن عطاء .

                                                وفي رواية أخرى له من طريق ابن أبي شيبة أيضا وقع بينهما شخصان أحدهما محمد بن عمرو بن عطاء هذا، والآخر سلمة بن الأزرق .

                                                وأخرجه النسائي : عن علي بن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن عمرو بن حلحلة ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سلمة بن الأزرق ، عن أبي هريرة .

                                                وأما رواية الطحاوي فإنه ليس فيها بين وهب بن كيسان وبين أبي هريرة أحد كما ترى ذلك.

                                                [ ص: 510 ] ووهب هذا قد روى عن أبي هريرة وغيره من الصحابة. ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" من التابعين.

                                                وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -، فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري ، عن إسماعيل بن عمر الواسطي شيخ أحمد وابن معين ، عن سفيان الثوري ، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، فيه مقال؛ فعن محمد بن سعد : كان كثير الحديث ولا يحتج به. وعن الجوزجاني: ضعيف الحديث. وعن أبي حاتم : منكر الحديث مضطرب الحديث ليس له حديث يعتمد عليه. وقال الدارقطني : مديني يترك وهو مغفل، وقال النسائي : لا نعلم مالكا روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف إلا عاصم بن عبيد الله .

                                                والحديث أخرجه أبو داود : عن محمد بن كثير ، عن سفيان ، عن عاصم . . . . إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه الترمذي وابن ماجه ، وفي رواية ابن ماجه : "على خديه".

                                                وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

                                                وقال المنذري في "مختصر السنن": وفي إسناده عاصم بن عبيد الله ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.

                                                ويستفاد منه حكمان:

                                                الأول: إباحة البكاء على الميت من غير صوت.

                                                والثاني: جواز تقبيل الميت؛ فإن رسول الله -عليه السلام- قبل عثمان بن مظعون ، وهو ممن هاجر الهجرتين، وممن شهد بدرا، وكانت وفاته في سنة اثنتين من الهجرة وهو أول من دفن بالبقيع، ومظعون بالظاء المعجمة.




                                                الخدمات العلمية