الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3 3 - (3) - (1 \ 2 - ) عن البراء بن عازب، قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما. قال: فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى منزلي، فقال: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت معه؟ قال: فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا، فأحثثنا يومنا وليلتنا، حتى أظهرنا،

[ ص: 15 ] وقام قائم الظهيرة، فضربت ببصري: هل أرى ظلا نأوي إليه؟ فإذا أنا بصخرة، فأهويت إليها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرشت له فروة، وقلت: اضطجع يا رسول الله، فاضطجع، ثم خرجت أنظر: هل أرى أحدا من الطلب؟ فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش. فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قال: قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. قال: فأمرته فاعتقل شاة منها، ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة، فحلب لي كثبة من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هل أنى الرحيل .

قال: فارتحلنا، والقوم يطلبونا، فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. فقال: " لا تحزن إن الله معنا " حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة، قال: قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. وبكيت، قال: " لم تبكي؟ " قال: قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت ". فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، ووثب عنها، وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لي فيها ". قال: ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق، فرجع إلى أصحابه.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه حتى قدمنا المدينة، فتلقاه الناس، فخرجوا في الطريق، وعلى الأجاجير، فاشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله

[ ص: 16 ] أكبر، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد. قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بني النجار، أخوال عبد المطلب، لأكرمهم بذلك " فلما أصبح غدا حيث أمر.

قال البراء بن عازب: أول من كان قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو على أثري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.

قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل.


قال إسرائيل: وكان البراء من الأنصار من بني حارثة.

التالي السابق


* قوله: "سرجا" : - بفتح فسكون - : واحد السروج.

* "حين خرج" : أي: من الغار بعد ثلاث ليال.

* "فأدلجنا" : - بتخفيف الدال - بمعنى: سار من أول الليل - وبتشديدها - بمعنى: سار من آخره، وقيل: أدلج - بالوجهين - في سير الليل مطلقا، أوله وآخره، والمشهور - ها هنا - السكون.

* "فأحثثنا" : - بحاء مهملة فمثلثتين فنون - ; أي: أسرعنا; من الحث.

* "يومنا وليلتنا" : وفي "صحيح البخاري" بتقديم "ليلتنا"، وهو أظهر، نعم الواو لا تفيد الترتيب، فتصح على رواية - أيضا - .

* "حتى أظهرنا" : دخلنا في الظهيرة، أو في الظهر; أي: قاربنا دخوله، فلا ينافي قوله: "وقام قائم الظهيرة"; فإنه يدل على أنه كان وقت الاستواء حيث لا يظهر ظل، ومعناه: أي: وقف الظل الذي يقف عادة عند الظهيرة حسبما يرى

[ ص: 17 ] ويظهر; فإن الظل عند الظهيرة لا يظهر له سويعة حركة حتى يظهر بمرأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة، وقيل: هو حال الشمس، ولا يخفى أن التذكير يأباه.

* "فضربت ببصري" : أي: نظرت.

* "نأوي" : نرجع.

* "فأهويت" : أي: ملت.

* "فإذا بقية ظلها" : - بقاف وتشديد ياء - والخبر مقدر; أي: موجودة.

* "فروة" : أي: جلدا.

* "من الطلب" : - بفتحتين - قيل: جمع طالب; كخدم جمع خادم، أو مصدر أقيم مقامه، أو على حذف المضاف; أي: أهل الطلب، قلت: قوله: "هذا الطلب قد لحقنا" - فيما بعد - يدل على أنه ليس بجمع.

* "من لبن" : - بفتحتين - هو المشهور، وروي - بضم وإسكان باء - ; أي: شياه ذوات ألبان.

* "حالب لي" : أي: بأن أذن لك أن تحلب لمن يمر بك على سبيل الضيافة، فلا يرد أنه كيف شربوا اللبن من الغلام وهو غير مالك له؟ وقيل في الجواب عنه: إنه كان لصديق لهم علموا برضائه، وهذا جائز، أو أنه كان مال حربي لا أمان له، أو لعلهم كانوا مضطرين.

* "فاعتقل شاة" : أي: احتبسها للحلب.

* "كثبة" : - بضم كاف وسكون مثلثة فموحدة - قيل: هي قدر الحلبة، وقيل: هي القليل منه.

[ ص: 18 ] * "فصببت" : أي: الماء من الإداوة على قدح اللبن.

* "حتى برد" : المشهور فتح الراء، وقيل: تضم.

* "فوافيته" : أي: وافقته ووجدته.

* "حتى رضيت" : أي: طابت نفسي بكثرة شربه.

* "ثم قال: هل أنى للرحيل" : أي: هل جاء وقته، وأنى كرمى، ومنه قوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله [الحديد: 16].

وفي بعض النسخ: "ثم قلت"، والصواب: "قال" كما في "ترتيب المسند"، و"صحيح مسلم".

* "يطلبونا" : - من حذف نون الرفع تخفيفا - وهو كثير بلا سبب، فكيف عند اجتماع النونين، ويحتمل تشديد النون بالإدغام; مثل قوله - تعالى - : أفغير الله تأمروني [الزمر: 64].

* "إلا سراقة" : - بضم السين - .

* "جعشم" : - بضم جيم وشين معجمة بينهما مهملة ساكنة - .

* "فساخت" : - بالخاء المعجمة - ; أي: غاصت.

* "في أرض صلد" : - بفتح فسكون - يقال: حجر صلد; أي: صلب أملس.

* "ووثب" : أي: نزل بسرعة.

* "لأعمين" : صيغة المتكلم من أعمي - بنون ثقيلة - ; أي: أخفين طريقك.

* "كنانتي" : - بكسر الكاف - : وعاء يتخذ للسهام.

* "فخذ منها سهما" : ليكون علامة لك عند الرعاة.

[ ص: 19 ] * "حاجتك" : أي: قدر حاجتك.

* "فأطلق" : على بناء المفعول.

* "وعلى الأجاجير" : أي: وطلعوا على السطوح، وهو جمع إجار - بكسر فتشديد - يعني: السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط، والإنجار - بالنون - لغة فيه، والجمع: الأجاجير، والأناجير.

* "فاشتد" : أي: كثر.

* "الخدم" : - بفتحتين - ; أي: العبيد.

* "يقولون: الله أكبر" : فرحة بقدومه.

* "وتنازع القوم" : أي: الأنصار، الظاهر أن هذا التنازع عند نزوله من القباء.

* "أيهم" : أي: ليعلموا أيهم ينزل عليه على بني النجار، كأن غالبهم كانوا في محل واحد.

* "فلما أصبح، غدا حيث أمر" : لعل هذا إشارة إلى ما جاء: أن ناسا قالوا: يا رسول الله إلينا، وناسا قالوا: المنزل يا رسول الله، فقال: "دعوا الناقة; فإنها مأمورة"، فبركت على باب أبي أيوب.

وفي رواية: "عند موضع المنبر من المسجد، فأتاه أبو أيوب فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فائذن لي أن أنقل رحلك، قال: نعم، فنقل، وأناخ الناقة في منزله"، وجاء أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

[ ص: 20 ] "المرء مع رحله"، وجاء أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر، ذكره في "فتح الباري".

* "ما فعل" : على بناء الفاعل; أي: ماذا هو فيه؟

* "على أثري" : - بفتحتين، أو بكسر فسكون - ; أي: عقبي.

* "ولم يقدم" : كيعلم.

* * *




الخدمات العلمية