الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4996 - فإذا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق قد حدثانا ، قالا : ثنا عبد الله بن بكر السهمي . ( ح ) .

                                                        وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قالا : ثنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك بن النضر ، أن عمته الربيع لطمت جارية فكسرت ثنيتها ، فطلبوا إليهم العفو فأبوا ، والأرش فأبوا إلا القصاص .

                                                        [ ص: 177 ] فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص .

                                                        فقال أنس بن النضر : يا رسول الله ، أتكسر ثنية الربيع ، لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها .

                                                        فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس ، كتاب الله القصاص . فرضي القوم ، فعفوا .

                                                        وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . يزيد بعضهم على بعض
                                                        .

                                                        فلما كان الحكم الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الربيع للمنزوعة ثنيتها هو القصاص ، ولم يخيرها بين القصاص وأخذ الدية ، وهاج أنس بن النضر حين أبى ذلك ، فقال : يا أنس ، كتاب الله القصاص ، فعفا القوم ، فلم يقض لهم بالدية .

                                                        ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله في العمد هو القصاص ؛ لأنه لو كان يجب للمجني عليه الخيار بين القصاص وبين العفو مما يأخذ به الجاني إذا لخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأعلمها ما لها أن تختاره من ذلك .

                                                        ألا ترى أن حاكما لو تقدم إليه رجل في شيء ، يجب له فيه أحد شيئين ، فثبت عنده حقه ، أنه لا يحكم له بأحد الشيئين دون الآخر ، وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب من كذا ومن كذا ، فإن تعدى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم الحكماء .

                                                        فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله عز وجل ثبت بذلك أن الذي في مثل ذلك هو القصاص لا غيره .

                                                        فلما ثبت هذا الحديث على ما ذكرنا وجب أن يعطف عليه حديث أبي شريح وأبي هريرة رضي الله عنهما .

                                                        فيجعل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما : فهو بالخيار بين أن يعفو ، أو بين أن يقتص ، أو يأخذ الدية على الرضاء من الجاني بغرم الدية ، حتى تتفق معاني هذين الحديثين ، ومعنى حديث أنس رضي الله عنه .

                                                        فإن قال قائل : فإن النظر يدل على ما قال أهل المقالة الأولى ، وذلك أن على الناس أن يستحيوا أنفسهم .

                                                        فإذا قال الذي له سفك الدم : ( قد رضيت بأخذ الدية ، وترك سفك الدم ) وجب على القاتل استحياء نفسه ، فإذا وجب ذلك عليه أخذ من ماله وإن كره .

                                                        فالحجة عليه في ذلك أن على الناس استحياء أنفسهم كما ذكرت بالدية ، وبما جاوز الدية ، وجميع ما يملكون .

                                                        وقد رأيناهم أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل : ( قد رضيت أن آخذ دارك هذه على أن لا أقتلك ) أن الواجب [ ص: 178 ] على القاتل فيما بينه وبين الله تسليم ذلك له وحقن دم نفسه ، فإن أبى لم يجبر عليه باتفاقهم على ذلك ، ولم يؤخذ منه ذلك كرها ، فيدفع إلى الولي .

                                                        فكذلك الدية إذا طلبها الولي ؛ فإنه يجب على القاتل فيما بينه وبين ربه أن يستحيي نفسه بها ، وإن أبى ذلك لم يجبر عليه ، ولم يؤخذ منه كرها .

                                                        ثم رجعنا إلى أهل المقالة الأولى في قولهم : ( إن للولي أن يأخذ الدية وإن كره ذلك الجاني ) .

                                                        فنقول لهم : ليس يخلو ذلك من أحد وجوه ثلاثة :

                                                        إما أن يكون ذلك ؛ لأن الذي له على القاتل هو القصاص والدية جميعا ، فإذا عفا عن القصاص فأبطله بعفوه ، كان له أخذ الدية .

                                                        وإما أن يكون الذي وجب له هو القصاص خاصة ، وله أن يأخذ الدية بدلا من ذلك القصاص .

                                                        وإما أن يكون الذي وجب له هو أحد أمرين ، إما القصاص ، وإما الدية ، يختار من ذلك ما شاء ، ليس يخلو ذلك من أحد هذه الثلاثة الوجوه .

                                                        فإن قلتم : الذي وجب له هو القصاص والدية جميعا ، فهذا فاسد ؛ لأن الله عز وجل لم يوجب على أحد فعل فعلا أكثر مما فعل ، فقد قال عز وجل : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص .

                                                        فلم يوجب الله عز وجل على أحد بفعل يفعله أكثر مما فعل ، ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يقتل ، ويأخذ الدية .

                                                        فلما لم يكن له بعد قتله أخذ الدية دل ذلك على أن الذي كان وجب له خلاف ما قلتم .

                                                        وإن قلتم : إن الذي وجب له هو القصاص ، ولكن له أن يأخذ الدية بدلا من ذلك القصاص ، فإنا لا نجد حقا لرجل يكون له أن يأخذ به بدلا بغير رضاء من عليه ذلك الحق ، فبطل هذا المعنى أيضا .

                                                        وإن قلتم : إن الذي وجب له أحد أمرين : إما القصاص ، وإما الدية ، يأخذ منهما ما أحب ، ولم يجب له أن يأخذ واحدا منهما دون الآخر .

                                                        فإنه ينبغي إذا عفا عن أحدهما بعينه أن لا يجوز عفوه ؛ لأن حقه لم يكن هو المعفو عنه بعينه ، فيكون له إبطاله إنما كان له أن يختاره فيكون هو حقه ، أو يختار غيره فيكون هو حقه ، فإذا عفا عن أحدهما قبل اختياره إياه ، وقبل وجوبه له بعينه فعفوه باطل .

                                                        ألا ترى أن رجلا لو جرح أبوه عمدا فعفا عن جارح أبيه ، ثم مات أبوه من تلك الجراحة ، ولا وارث له غيره أن عفوه باطل ؛ لأنه إنما عفا قبل وجوب المعفو عنه له .

                                                        فلما كان ما ذكرنا كذلك ، وكان العفو من القاتل قبل اختياره القصاص أو الدية جائزا ثبت بذلك [ ص: 179 ] أن القصاص قد كان وجب له بعينه قبل عفوه عنه ، ولولا وجوبه له إذا لما كان له إبطاله بعفوه ، كما لم يجز عفو الابن عن دم أبيه قبل وجوبه له .

                                                        ففي ثبوت ما ذكرنا وانتفاء هذه الوجوه التي وصفنا ما يدل أن الواجب على القاتل عمدا أو الجارح عمدا هو القصاص لا غير ذلك من دية وغيرها ، إلا أن يصلح هو إن كان حيا ، أو وارثه إن كان ميتا ، والذي وجب ذلك عليه على شيء ، فيكون الصلح جائزا على ما اصطلحا عليه من دية أو غيرها .

                                                        وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية