الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        5434 - وقد حدثنا أيضا يزيد بن سنان ، قال : ثنا محمد بن أبي رجاء الهاشمي ، قال : ثنا أبو معشر ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن عبد الله مولى غفرة ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولي أبو بكر رضي الله عنه ، قدم عليه مال من البحرين ، فقال : ( من كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليأتني ، وليأخذ ) .

                                                        [ ص: 305 ] فأتى جابر بن عبد الله ، فقال : وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه مال من البحرين ، أعطاني هكذا وهكذا ، وهكذا ثلاث مرات ، ملء كفيه قال : خذ بيدك ، فأخذ بيده ، فوجدها خمسمائة ، فقال : اعدد إليها ألفا .

                                                        ثم أعطى من كان وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قسم بين الناس ما بقي ، فأصاب كل إنسان منهم عشرة دراهم .

                                                        فلما كان العام المقبل جاءه مال كثير أكثر من ذلك ، فقسمه بين الناس ، فأصاب كل إنسان عشرون درهما ، وفضل من المال فضل .

                                                        فقال : يا أيها الناس ، قد فضل فضل ، ولكم خدم يعالجون لكم ، ويعملون لكم ، فإن شئتم رضخنا لهم ، فرضخ لهم خمسة دراهم ، خمسة دراهم .

                                                        فقيل : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو فضلت المهاجرين والأنصار بفضلهم .

                                                        قال : إنما أجورهم على الله ، إنما هذا مغانم ، والأسوة في المغانم أفضل من الأثرة .

                                                        فلما توفي أبو بكر رضي الله عنه ، واستخلف عمر ، فتحت عليه الفتوح ، وجاءهم مال أكثر من ذلك ، فقال : كان لأبي بكر رضي الله عنه في هذا المال رأي ولي رأي آخر ، رأى أبو بكر أن يقسم بالسوية ، ورأيت أن أفضل المهاجرين والأنصار ، ولا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه .

                                                        ففضل المهاجرين والأنصار ، فجعل لمن شهد بدرا منهم خمسة آلاف ، ومن كان له إسلام مع إسلامهم ، إلا أنه لم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف ، وللناس على قدر إسلامهم ومنازلهم .

                                                        وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفا ، لكل امرأة منهن ، إلا صفية وجويرية ، فرض لهما ستة آلاف ستة آلاف ، فأبتا أن تأخذا .

                                                        فقال : إنما فرضت لكن بالهجرة ، فقالتا : إنما فرضت لهن لمكانهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولنا مثل مكانهن ، فأبصر ذلك عمر رضي الله عنه فجعلهن سواء .

                                                        وفرض للعباس بن عبد المطلب اثني عشر ألفا لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرض لنفسه خمسة آلاف ، وفرض لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه خمسة آلاف ، وربما زاد الشيء ، وفرض للحسن والحسين رضي الله عنهما خمسة آلاف ، خمسة آلاف ، ألحقهما بأبيهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرض لأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أربعة آلاف ، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ثلاثة آلاف ، فقال له عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : بأي شيء زدته علي ؟ قال : فبما ، فما كان لأبيه من الفضل ، ما لم يكن لك ، ولم يكن له من الفضل ما لم يكن لي ، فقال : إن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ، وكان هو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك .

                                                        وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا ألفين ألفين ، فمر به عمر بن أبي سلمة ، فقال : زده ألفا يا غلام .

                                                        وقال محمد بن عبد الله بن جحش : لأي شيء زدته علي ؟ والله ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لآبائنا .

                                                        قال : فرضت لأبي سلمة ألفين ، وزدته لأم سلمة ألفا ، فلو كانت لك أم مثل أم سلمة زدتك ألفا .

                                                        [ ص: 306 ] وفرض لأهل مكة ثماني مائة في الشرف منهم ، ثم الناس على قدر منازلهم ، وفرض لعثمان بن عبد الله بن عثمان بن عمرو ثماني مائة ، وفرض للنضر بن أنس في ألفي درهم .

                                                        فقال له طلحة بن عبيد الله : جاءك ابن عثمان بن عمرو ، ونسبه إلى جده ، ففرضت له ثماني مائة ، وجاءك هنبة من الأنصار ، ففرضت له في ألفين .

                                                        فقال : إني لقيت أبا هذا يوم أحد ، فسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما أراه إلا قد قتل ، فسل سيفه ، وكسر غمده ، وقال : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ، فإن الله حي لا يموت ، وقاتل حتى قتل ، وهذا يرعى الغنم بمكة ، أفتراني أجعلهما سواء ؟

                                                        قال : فعمل عمر ، عمره كله بهذا ، حتى إذا كان في آخر السنة التي قتل فيها سنة ثلاث وعشرين حج ، فقال أناس من الناس : ( لو مات أمير المؤمنين ، قمنا إلى فلان ابن فلان ، فبايعناه ) .

                                                        قال أبو معشر : يعنون طلحة بن عبيد الله .

                                                        فلما قدم عمر المدينة خطب ، فقال في خطبته : رأى أبو بكر في هذا المال رأيا ، رأى أن يقسم بينهم بالسوية ، ورأيت أن أفضل المهاجرين والأنصار بفضلهم ، فإن عشت هذه السنة أرجع إلى رأي أبي بكر ، فهو خير من رأيي .


                                                        أفلا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه لما قسم سوى بين الناس جميعا ، فلم يقدم ذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من سواهم ، ولم يجعل لهم سهما في ذلك المال أبانهم به عن الناس .

                                                        فذلك دليل على أنه كان لا يرى لهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا في مال الفيء ، سوى ما يأخذونه كما يأخذ من ليس بذوي القربى .

                                                        ثم هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أفضى إليه الأمر ، ورأى التفضيل بين الناس على المنازل ، لم يجعل لذوي القربى سهما يبينون أي يمتازون به على الناس ، ولكنه جعلهم وسائر الناس سواء ، وفضل بينهم بالمنازل ، غير ما يستحقونه بالقرابة ، لو كان لأهلها سهم قائم .

                                                        فدل ذلك على ما ذهبنا إليه من ارتفاع سهم ذوي القربى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث روي عن عمر رضي الله تعالى عنه .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية