الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 53 ] وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته، فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، والرب تعالى يحب أن يعبد لا يشرك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعيم تبعا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد أولا الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن.

فالرب تعالى يحب أن يعبد، ومن لوازم ذلك أن يحب ما لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله تعالى. فمن عبد الله وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحق الله وحق عباده لأجله، ومن طلب منهم العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يحسن إليهم لله. ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم فقد قام بحق الله في إخلاص الدين له، وقام بحقهم، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم ما لهم ويكف عن ظلمهم ومن [لم] يخف الله بل خاف الناس، ولم يرج الله بل رجا الناس فهذا ظالم في حق الله، حيث خاف غيره ورجا غيره، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفع شرهم عنه، وهو إذا لم يخف الله بنفسه وهواه يختار العدوان عليهم والبغي، فإن طبع النفس ظلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يوقع الفتن بين الناس. [ ص: 54 ]

وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله. وهذا موجود كثيرا، تجد الناس يخاف بعضهم بعضا ويرجو بعضهم بعضا، وكل من هؤلاء وهؤلاء يتظلم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم بعضا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس عليها، وهو أيضا يجر إلى فعل المعاصي المختصة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، لاسيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، فتستريح بالمحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وغير ذلك.

ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائما، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا الله وحده لا شريك له. فإذا لم تكن مخلصة له الدين عبدت غيره، فأشركت به عبادة واستعانة، فتعبد غيره وتستعين غيره. وسعادتها في أن لا تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبإعانته تستغني عن معين غيره، وإلا يبقى مذنبا محتاجا.

وهذا حال الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلا بد له من ربه الذي يسد مفاقره، ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك . [ ص: 55 ]

فبالتوحيد يقوى ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله، وبالاستغفار له يغفر له. فلا يزول فقره وفاقته إلا بالتوحيد، لا بد له منه، وإلا فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا لا يحصل مطلوبه معذبا، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به. وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهو مفتقر دائما إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائما فقره إليه وحاجته في أن يكون معبودا له وأن يكون معينا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه أي يخوفكم أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . هذا هو الصواب الذي علمه جمهور المفسرين ، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة كالفراء وابن قتيبة والزجاج وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوفكم بأوليائه، كما قال: لينذر بأسا شديدا من لدنه أي ببأس، وقوله: لينذر يوم التلاق أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يخوفكم من أوليائه. قال أبو بكر الأنباري : والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني. [ ص: 56 ]

قال: فهذا أشبه من ادعاء "باء"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة.

قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له في تخويف ناس [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودا.

وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم.

وقد قال بعض المفسرين : إن المراد يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا عن الحسن والسدي. وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل إلى أن قال: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، ثم قال: فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . فإنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال تعالى: يخوف أولياءه ثم قال: فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . والضمير عائد إلى أوليائه الذين قيل فيهم فاخشوهم .

وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوف أولياءه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم. أو أنهم أرادوا المفعول المتروك، أي يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود إليه، وهو قوله فلا تخافوهم . [ ص: 57 ]

وأيضا فهذا فيه نظر، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم، كما قال تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس الآية ، وقال: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . ولكن الكفار يوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى: لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، وقال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية ، وقال: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . وفي حديث قريظة أن جبريل قال: إني ذاهب إليهم فأزلزل بهم الحصن.

التالي السابق


الخدمات العلمية