الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    ومن أحسن الفراسة : فراسة عبد الملك بن مروان لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه فبعث معه ورقة لطيفة إلى عبد الملك . فلما قرأها قال : أتدري ما فيها ؟ قال : فيها " عجب ، كيف ملكت العرب غير هذا ؟ " أفتدري ما أراد ؟ قال : لا . قال : حسدني عليك . فأراد أني أقتلك ، فقال الشعبي : لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني . فبلغ ذلك ملك الروم ، فقال : والله ما أخطأ ما كان في نفسي .

                    ومن دقيق الفطنة : أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ ، فتحمله رتبته على نصرة الخطإ . وذلك خطأ ثان ، ولكن تلطف في إعلامه به ، حيث لا يشعر به غيره . ومن دقيق الفراسة : أن المنصور جاءه رجل ، فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا ، فدفعه إلى امرأته ، ثم طلبه منها . فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقبا ولا أمارة ، فقال المنصور : منذ كم تزوجتها ؟ قال : منذ سنة ، قال : بكرا أو ثيبا ؟ قال : ثيبا ، قال : فلها ولد من غيرك ؟ قال : لا ، قال : فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتخذ له حاد الرائحة ، غريب النوع ، فدفعها إليه ، وقال له : تطيب من هذا الطيب ، فإنه يذهب غمك . فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته : ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به . وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته ، فلما شمته بعثت به إلى رجل كانت تحبه ، وقد كانت دفعت إليه المال ، فتطيب منه ، ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة ، فشم الموكل بالباب رائحته عليه ; فأتى به المنصور ، فسأله : من أين لك هذا الطيب ؟ فلجلج في كلامه . فدفعه إلى والي الشرطة ، [ ص: 39 ] فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه ، وإلا اضربه ألف سوط . فلما جرد للضرب أحضر المال على هيئته فدعا المنصور صاحب المال ، فقال : أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك ؟ قال : نعم . قال : هذا مالك ، وقد طلقت المرأة منك .

                    14 - فصل

                    ومنها أن شريكا دخل على المهدي ، فقال للخادم : هات عودا للقاضي - يعني البخور - فجاء الخادم بعود يضرب به ، فوضعه في حجر شريك ، فقال : ما هذا ؟ فبادر المهدي ، وقال : هذا عود أخذه صاحب العسس البارحة ، فأحببت أن يكون كسره على يديك ، فدعا له وكسره . ومن ذلك : ما يذكر عن المعتضد بالله ، أنه كان جالسا يشاهد الصناع ، فرأى فيهم أسود منكر الخلقة ، شديد المرح ، يعمل ضعف ما يعمل الصناع ، ويصعد مرقاتين مرقاتين ، فأنكر أمره ، فأحضره وسأله عن أمره ؟ فلجلج ، فقال لبعض جلسائه : أي شيء يقع لكم في أمره ؟ قالوا : ومن هذا حتى تصرف فكرك إليه ؟ لعله لا عيال له ، وهو خالي القلب ، فقال : قد خمنت في أمره تخمينا ، ما أحسبه باطلا : إما أن يكون معه دنانير ، قد ظفر بها دفعة ، أو يكون لصا يتستر بالعمل ، فدعا به ، واستدعى بالضراب فضربه ، وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه ، فقال : لي الأمان ، قال : نعم ، إلا فيما يجب عليك بالشرع . فظن أنه قد أمنه ، فقال : قد كنت أعمل في الآجر ، فاجتاز رجل في وسطه هميان ، فجاء إلى مكان فجلس وهو لا يعلم مكاني ، فحل الهميان وأخرج منه دنانير فتأملته ، وإذا كله دنانير فساورته وكتفته وشددت فاه ، وأخذت الهميان ، وحملته على كتفي وطرحته في الأتون وطينته . فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه فطرحتها في دجلة . فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير من منزله ، وإذا على الهميان مكتوب : فلان ابن فلان ، فنادى في البلد باسمه ، فجاءت امرأة فقالت : هذا زوجي . ولي منه هذا الطفل ، خرج وقت كذا وكذا ومعه ألف دينار : فغاب إلى الآن . فسلم الدنانير إليها ، وأمرها أن تعتد ، وأمر بضرب عنق الأسود ، وحمل جثته إلى ذلك الأتون .

                    وكان للمعتضد من ذلك عجائب ، منها : أنه قام ليلة ، فإذا غلام قد وثب على ظهر غلام ، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه ، فجاء فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد ، فيجده ساكنا ، حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام ، فإذا به يخفق خفقا شديدا ، فركضه برجله ، واستقره ، فأقر ، فقتله .

                    ومنها : أنه رفع إليه أن صيادا ألقى شبكته في دجلة ، فوقع فيها جراب فيه كف مخضوبة بحناء ، وأحضر بين يديه ، فهاله ذلك . وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هنالك ففعل ، فأخرج جرابا آخر فيه رجل ، فاغتم المعتضد وقال : معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه ؟ ثم أحضر ثقة له وأعطاه [ ص: 40 ] الجراب ، وقال : طف به على كل من يعمل الجرب ببغداد .

                    فإن عرفه أحد منهم فاسأله عمن باعه منه ، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك ونقر عن خبره .

                    فغاب الرجل ثلاثة أيام ، ثم عاد ، فقال : ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي ، اشتراه مع عشرة جرب ، وشكا البائع شره وفساده ، ومن جملة ما قال : إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها ، فلا يعرف لها خبر ، وادعى أنها هربت ، والجيران يقولون : إنه قتلها .

                    فبعث المعتضد من كبس منزل الهاشمي وأحضره ، وأحضر اليد والرجل ، وأراه إياهما ، فلما رآهما امتقع لونه ، وأيقن بالهلاك واعترف .

                    فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاها ، وحبس الهاشمي حتى مات في الحبس .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية