الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 142 ] النوع الثاني عشر .

ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه .

قال الزركشي في البرهان : قد يكون النزول سابقا على الحكم ، كقوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ الأعلى : 14 - 15 ] فقد روى البيهقي وغيره ، عن ابن عمر : أنها نزلت في زكاة الفطر . وأخرج البزار نحوه مرفوعا .

وقال بعضهم : لا أدري ما وجه التأويل ؟ لأن السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم ؟ .

وأجاب البغوي : بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم ، كما قال : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد فالسورة مكية ، وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة ، حتى قال - عليه السلام - أحلت لي ساعة من نهار
وكذلك نزلت بمكة سيهزم الجمع ويولون الدبر .

[ ص: 143 ] [ القمر : 45 ] . قال عمر بن الخطاب : فقلت أي جمع ؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم مصلتا بالسيف ، ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فكانت ليوم بدر . أخرجه الطبراني في الأوسط .

وكذلك قوله : جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ ص : 11 ] قال قتادة : وعده الله - وهو يومئذ بمكة - أنه سيهزم جندا من المشركين ، فجاء تأويلها يوم بدر . أخرجه ابن أبي حاتم .

أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله : وقل جاء الحق قال : السيف ، والآية مكية متقدمة على فرض القتال ، ويؤيد تفسير ابن مسعود : ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضا قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا ، فجعل يطعنها بعود كان في يده ، ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء : 81 ] جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد .

وقال ابن الحصار : قد ذكر الله الزكاة في السور المكيات كثيرا ، تصريحا وتعريضا بأن الله سينجز وعده لرسوله ، ويقيم دينه ويظهره ; حتى تفرض الصلاة والزكاة وسائر الشرائع ، ولم تؤخذ الزكاة إلا بالمدينة بلا خلاف ، وأورد من ذلك قوله – تعالى - : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] وقوله في سورة المزمل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 20 ] ، ومن ذلك قوله فيها وآخرون يقاتلون في سبيل الله [ المزمل : 20 ] .

ومن ذلك قوله تعالى : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا [ فصلت : 33 ] فقد قالت عائشة ، وابن عمر ، وعكرمة ، وجماعة : إنها نزلت في المؤذنين ، والآية مكية ولم يشرع الأذان إلا بالمدينة .

ومن أمثلة ما تأخر نزوله عن حكمه : آية الوضوء ، ففي صحيح البخاري : عن عائشة ، قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون المدينة ، فأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل فثنى رأسه [ ص: 144 ] في حجري راقدا ، وأقبل أبو بكر ، فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست الناس في قلادة ؟ ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله ‏‏لعلكم تشكرون‏ [ المائدة : 6 ] فالآية مدنية إجماعا ، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة .

قال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء ، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند . قال : والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ; ليكون فرضه متلوا بالتنزيل .

وقال غيره : يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء ، ثم نزل بقيتها - وهو ذكر التيمم - في هذه القصة .

قلت : يرده الإجماع على أن الآية مدنية .

ومن أمثلته أيضا : آية الجمعة ، فإنها مدنية ، والجمعة فرضت بمكة ، وقول ابن الفرس : إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط ، يرده ما أخرجه ابن ماجه ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة ، فسمع الأذان يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة ، فقلت : يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة ، لم هذا ؟ قال : أي بني كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة .

ومن أمثلته : قوله – تعالى - : إنما الصدقات للفقراء [ التوبة : 60 ] الآية ، فإنها نزلت سنة تسع ، وقد فرضت الزكاة قبلها في أوائل الهجرة .

قال ابن الحصار : فقد يكون مصرفها قبل ذلك معلوما ، ولم يكن فيه قرآن متلو ، كما كان الوضوء معلوما قبل نزول الآية ، ثم نزلت تلاوة القرآن تأكيدا به .

التالي السابق


الخدمات العلمية