الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 62 ] فصل في تحرير السور المختلف فيها :

سورة الفاتحة : الأكثرون على أنها مكية ، بل ورد أنها أول ما نزل كما سيأتي في النوع الثامن ، واستدل لذلك بقوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني [ الحجر : 87 ] . وقد فسرها - صلى الله عليه وسلم - بالفاتحة كما في الصحيح . وسورة الحجر مكية باتفاق ، وقد امتن على رسوله فيها بها ، فدل على تقدم نزول الفاتحة عليها ، إذ يبعد أن يمتن عليه بما لم ينزل بعد ، وبأنه لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، ولم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة ، ذكره ابن عطية وغيره .

وقد روى الواحدي من طريق العلاء بن المسيب ، عن الفضل بن عمرو ، عن علي بن أبي طالب ، قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش .

واشتهر عن مجاهد القول بأنها مدنية . أخرجه الفريابي في تفسيره ، وأبو عبيد في " الفضائل " بسند صحيح عنه .

قال الحسين بن الفضل : هذه هفوة من مجاهد ;لأن العلماء على خلاف قوله . وقد نقل ابن عطية القول بذلك عن الزهري وعطاء وسوادة بن زياد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير .

وورد ، عن أبي هريرة . بإسناد جيد . قال الطبراني في الأوسط : حدثنا عبيد بن غنام ، نبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ، نبأنا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة : أن إبليس [ ص: 63 ] رن حين أنزلت فاتحة الكتاب ، وأنزلت بالمدينة . ويحتمل أن الجملة الأخيرة مدرجة من قول مجاهد .

وذهب بعضهم إلى أنها نزلت مرتين : مرة بمكة ومرة بالمدينة مبالغة في تشريفها .

وفيها قول رابع : أنها نزلت نصفين : نصفها بمكة ونصفها بالمدينة ، حكاه أبو ليث السمرقندي .

سورة النساء : زعم النحاس أنها مكية ، مستندا إلى أن قوله : إن الله يأمركم [ 58 ] نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة ، وذلك مستند واه ; لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية ، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ، ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه . ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري ، عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده . ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا . وقيل : نزلت عند الهجرة .

سورة يونس هل هي مكية أو مدنية : المشهور أنها مكية ، وعن ابن عباس روايتان ، فتقدم في الآثار السابقة عنها أنها مكية . وأخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عنه ، ومن طريق ابن جريج ، عن عطاء عنه ، ومن طريق خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن الزبير .

وأخرج من طريق عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنها مدنية ، ويؤيد المشهور ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : لما بعث الله [ ص: 64 ] محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك . أو من أنكر ذلك منهم . فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل الله تعالى : أكان للناس عجبا [ يونس : 2 ] .

سورة الرعد : تقدم من طريق مجاهد ، عن ابن عباس ، وعن علي بن أبي طلحة : أنها مكية ، وفي بقية الآثار أنها مدنية .

وأخرج ابن مردويه الثاني من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، ومن طريق ابن جريج ، عن عثمان بن عطاء ، عن ابن عباس ومن طريق مجاهد ، عن ابن الزبير . وأخرج أبو الشيخ مثله ، عن قتادة . وأخرج الأول عن سعيد بن جبير .

وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جبير ، عن قوله - تعالى - : ومن عنده علم الكتاب [ الرعد : 43 ] أهو عبد الله بن سلام ؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية ! .

ويؤيد القول بأنها مدنية : ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قوله - تعالى - : الله يعلم ما تحمل كل أنثى إلى قوله : وهو شديد المحال [ الرعد : 8 - 13 ] نزل في قصة أربد بن قيس وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

والذي يجمع به بين الاختلاف : أنها مكية إلا آيات منها .

سورة الحج هل هي مكية أو مدنية : تقدم من طريق مجاهد ، عن ابن عباس : أنها مكية إلا آيات التي استثناها ، وفي الآثار الباقية : أنها مدنية .

وأخرج ابن مردويه من طريق العوفي ، عن ابن عباس . ومن طريق ابن جريج وعثمان ، عن عطاء عن ابن عباس ، ومن طريق مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية .

قال ابن الفرس في " أحكام القرآن " : وقيل : إنها مكية إلا : هذان خصمان الآيات . وقيل : إلا عشر آيات . وقيل : مدنية إلا أربع آيات : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى [ ص: 65 ] عقيم [ 52 - 55 ] . قاله قتادة وغيره . وقيل : كلها مدنية ، قاله الضحاك وغيره ، وقيل : هي مختلطة ، فيها مدني ومكي ، وهو قول الجمهور . انتهى .

ويؤيد ما نسبه إلى الجمهور : أنه ورد في آيات كثيرة منها أنه نزل بالمدينة ، كما حررناه في أسباب النزول .

سورة الفرقان هل هي مكية أو مدنية : قال ابن الفرس : الجمهور على أنها مكية ، وقال الضحاك : مدنية .

سورة يس هل هي مكية أو مدنية : حكى أبو سليمان الدمشقي قولا : أنها مدنية ، قال : وليس بالمشهور .

سورة ص هل هي مكية أو مدنية ؟ : حكى الجعبري قولا : أنها مدنية خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية .

سورة محمد هل هي مكية أو مدنية ؟ : حكى النسفي قولا غريبا : أنها مكية .

سورة الحجرات هل هي مكية أو مدنية : حكي قول شاذ أنها مكية .

سورة الرحمن : هل هي مكية أو مدنية الجمهور على أنها مكية ، وهو الصواب ويدل له ما رواه الترمذي والحاكم ، عن جابر ، قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه سورة الرحمن حتى فرغ ، قال : ما لي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم من مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين . وقصة الجن كانت بمكة .

وأصرح منه في الدلالة ما أخرجه أحمد في مسنده بسند جيد : عن أسماء بنت أبي [ ص: 66 ] بكر ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ، والمشركون يسمعون : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، وفي هذا دليل على تقدم نزولها على سورة الحجر .

سورة الحديد هل هي مكية أو مدنية : قال ابن الفرس : الجمهور على أنها مدنية ، وقال قوم : إنها مكية ، ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا ، لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا .

قلت : الأمر كما قال ، ففي مسند البزار وغيره ، عن عمر : أنه دخل على أخته قبل أن يسلم ، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد ، فقرأها وكان سبب إسلامه .

وأخرج الحاكم وغيره ، عن ابن مسعود ، قال : لم يكن شيء بين إسلامه وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين : ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد [ الحديد : 16 ] .

سورة الصف هل هي مكية أو مدنية : المختار أنها مدنية ، ونسبه ابن الفرس إلى الجمهور ورجحه ، ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله سبحانه : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون [ ص: 67 ] [ الصف : 1 ، 2 ] حتى ختمها ، قال عبد الله : فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ختمها .

سورة الجمعة هل هي مكية أو مدنية : الصحيح أنها مدنية ، لما روى البخاري عن أبي هريرة ، قال : كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه في سورة الجمعة : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم [ الجمعة : 3 ] . قلت : من هم يا رسول الله . . . . الحديث . ومعلوم أن إسلام أبي هريرة بعد الهجرة بمدة . وقوله : قل ياأيها الذين هادوا [ 6 ] خطاب لليهود ، وكانوا بالمدينة . وآخر السورة نزل في انقضاضهم حال الخطبة لما قدمت العير ، كما في الأحاديث الصحيحة ، فثبت أنها مدنية كلها .

سورة التغابن : قيل : مدنية وقيل : مكية إلا آخرها .

سورة الملك : فيها قول غريب : إنها مدنية .

سورة الإنسان : قيل مدنية ، وقيل : مكية إلا آية واحدة : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ الإنسان : 24 ] .

سورة المطففين : قال ابن الفرس : قيل : إنها مكية ; لذكر الأساطير فيها . وقيل : مدنية ، لأن أهل المدينة كانوا أشد الناس فسادا في الكيل .

وقيل : نزلت بمكة إلا قصة التطفيف . وقال قوم : نزلت بين مكة والمدينة . انتهى .

قلت : أخرج النسائي وغيره - بسند صحيح - عن ابن عباس قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله : ويل للمطففين فأحسنوا الكيل .

[ ص: 68 ] سورة الأعلى : الجمهور على أنها مكية ، قال ابن الفرس ‏ : ‏وقيل : إنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها‏ .

قلت‏ : ‏ ويرده ما أخرجه البخاري ، عن البراء بن عازب قال‏ : ‏ أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن ، ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به ، فما جاء حتى قرأت : سبح اسم ربك الأعلى في سورة مثلها‏ .

سورة الفجر : فيها قولان ، حكاهما ابن الفرس . قال أبو حيان‏ : ‏ والجمهور على أنها مكية‏ .

سورة البلد : حكى ابن الفرس فيها أيضا قولين ، وقوله : بهذا البلد يرد القول بأنها مدنية‏ .

سورة الليل : الأشهر أنها مكية ، وقيل : مدنية ، لما ورد في سبب نزولها من قصة النخلة كما أخرجناه في سبب النزول‏ . وقيل : فيها مكي ومدني‏ .

سورة القدر : فيها قولان ، والأكثر أنها مكية‏ . ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم ، عن الحسن بن علي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : ‏ ‏ ‏إنا أعطيناك الكوثر‏ ‏ ، ونزلت ‏ إنا أنزلناه في ليلة القدر ‏ الحديث . قال المزي‏ : ‏ وهو حديث منكر‏ .

[ ص: 69 ] سورة لم يكن : قال ابن الفرس ‏ : ‏ الأشهر أنها مكية‏ .

قلت‏ : ‏ ويدل لمقابله ما أخرجه أحمد ، عن أبي حبة البدري ، قال : لما نزلت‏‏ ‏ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ‏ إلى آخرها ، قال جبريل‏ : ‏ يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا . . . الحديث‏ . وقد جزم ابن كثير أنها مدنية ، واستدل به‏ .

سورة الزلزلة : فيها قولان ، ويستدل لكونها مدنية : بما أخرجه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية ، قلت : يا رسول الله ، إني لراء عملي ؟ . . الحديث . وأبو سعيد لم يكن إلا بالمدينة ، ولم يبلغ إلا بعد أحد .

سورة العاديات : فيها قولان ، ويستدل لكونها مدنية : بما أخرجه الحاكم وغيره ، عن ابن عباس : قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلا ، فلبثت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت والعاديات . . الحديث .

سورة ألهاكم : الأشهر أنها مكية .

ويدل لكونها مدنية - وهو المختار - ما أخرجه ابن أبي حاتم ، عن ابن بريدة أنها نزلت [ ص: 70 ] في قبيلتين من قبائل الأنصار تفاخروا . . الحديث .

وأخرج عن قتادة : أنها نزلت في اليهود .

وأخرج البخاري عن أبي بن كعب ، قال : كنا نرى هذا من القرآن - يعني " لو كان لابن آدم واد من ذهب " - حتى نزلت : ألهاكم التكاثر .

وأخرج الترمذي عن علي ، قال : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت .

وعذاب القبر لم يذكر إلا بالمدينة ، كما في الصحيح في قصة اليهودية .

سورة أرأيت : فيها قولان ، حكاهما ابن الفرس .

سورة الكوثر : الصواب أنها مدنية ، ورجحه النووي في شرح مسلم ، لما أخرجه مسلم ، عن أنس قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة فرفع رأسه مبتسما ، فقال : " أنزلت علي آنفا سورة " فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها . . . الحديث .

سورة الإخلاص : فيها قولان ، لحديثين في سبب نزولهما متعارضين . وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ، ثم ظهر لي بعد ترجيح : أنها مدنية ، كما بينته في أسباب النزول [ ص: 71 ] .

المعوذتان : المختار أنهما مدنيتان ; لأنهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن الأعصم ، كما أخرجه البيهقي في الدلائل‏ .

فصل .

قال البيهقي في الدلائل : في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فألحقت بها . وكذا قال ابن الحصار‏ : ‏ كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة‏ . قال‏ : ‏ إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية