الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه [ ص: 596 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 596 ] 1812 1765 - ( مالك عن نافع ) في موطأ محمد بن الحسن مالك أخبرنا نافع ، ( عن ابن عمر أن رسول الله ) - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية يزيد بن الهاد عن مالك عن الموطآت للدارقطني : أنه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( قال : لا يحتلبن ) - بفوقية ، فلام مكسورة - قال الحافظ : وفي أكثر الموطآت لا يحلبن بدون تاء وضم اللام : ( أحد ماشية أحد ) ذكر أو أنثى ، قال في النهاية : الماشية تقع على الإبل ، والبقر ، والغنم ، ولكنه في الغنم أكثر ، رواه جماعة من رواة الموطأ ، ماشية رجل ، وهو كالمثال فلا اختصاص لذلك بالرجل ، وذكره بعض الشراح بلفظ : ماشية أخيه ، وقال هو للغالب ، إذ لا فرق في هذا الحكم بين المسلم والذمي ، وتعقب بأنه لا وجود لذلك في الموطأ ، وبإثبات الفرق بينهما عند كثير من العلماء ، وقد رواه أحمد من طريق عبيد الله عن نافع بلفظ : نهى أن يحتلب مواشي الناس ( بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته ) - بضم الراء ، وقد تفتح ، أي : غرفته ( فتكسر ) - بضم التاء ، وفتح السين ، والنصب عطف على تؤتى ( خزانته ) - بكسر الخاء ، والرفع ، نائب الفاعل مكانه ، أو وعاؤه الذي يخزن فيه ما يريد حفظه ، وفي رواية أيوب عند أحمد : فيكسر بابها ، ( فينتقل ) - بالنصب - ( طعامه ) - بضم الياء ، ونون وقاف - من النقل ، أي : يحول من مكان إلى آخر ، كذا في أكثر الموطآت ، ورواه بعضهم كما قال أبو عمر ، وأخرجه الإسماعيلي عن روح بن عبادة ، وغيره عن مالك ، بلفظ : فينتثل - بمثلثة بدل القاف - والنثل : الأخذ مرة واحدة بسرعة ، وقيل : الاستخراج ، وهو أخص من النقل .

                                                                                                          وكذا رواه مسلم عن أيوب ، وموسى بن عقبة ، وغيرهما عن نافع ، ورواه الليث عن نافع بالقاف ، ( وإنما تخزن ) - بفتح الفوقية ، وسكون المعجمة ، وضم الزاي - ( ضروع ) جمع ضرع للبهيمة كالثدي للمرأة ، ( مواشيهم أطعماتهم ) نصب بالكسرة مفعول لضروع ، وهو جمع أطعمة ، وهي جمع طعام ، والمراد هنا : اللبن كما قال أبو عمر ، فشبه ضروع المواشي في ضبطها الألبان على أربابها بالخزانة التي تحفظ ما أودعته من متاع وغيره ، ( فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) ، أعاده بعد ضرب المثال زيادة في التنفير عنه ، وفيه النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا ، إلا بإذنه الخاص ، أو العام ، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه ، فنبه به على ما هو أولى منه ، وبهذا أخذ الجمهور ، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم بطيب نفس صاحبه ، وإن لم يقع [ ص: 597 ] منه إذن خاص ، ولا عام ، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقا في الأكل والشرب سواء علم طيب نفسه أم لم يعلم ، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود ، والترمذي وصححه من رواية الحسن عن سمرة مرفوعا : " إذا أتى أحدكم ماشية ، فإن لم يكن صاحبها فيها ، فيصوت ثلاثا ، فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ، ولا يحمل " ، إسناده صحيح إلى الحسن .

                                                                                                          فمن صحح سماعه من سمرة صححه ، ومن لا أعله بالانقطاع ، لكن له شواهد من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعا : " إذا أتيت على راع فنادي ثلاثا ، فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد ، وإذا أتيت على حائط بستان " ، فذكر مثله ، أخرجه ابن ماجه والطحاوي ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح ، فهو أولى أن يعمل به ، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه ، فلا يلتفت إليه ، ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه : منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه ، والنهي على ما إذا لم يعلم .

                                                                                                          ومنها : تخصيص الإذن بابن السبيل دون غيره ، أو بالمضطر ، أو بحال المجاعة مطلقا ، وهي متقاربة ، وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه : أن حديث الإذن كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وحديث النهي أشار إلى ما سيكون بعده من التشاح ، وترك المواساة .

                                                                                                          ومنهم من حمل حديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار لحديث أبي هريرة : " بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، إذ رأينا إبلا مصرورة فثبنا إليها ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ، أيسركم لو رجعتم إلى منازلكم فوجدتم ما فيها قد ذهب ؟ قلنا : لا ، قال : فإن ذلك كذلك " ، أخرجه أحمد ، وابن ماجه ، واللفظ له ، ولفظ أحمد : فابتدرها القوم ليحلبوها ، قالوا : فيحمل حديث الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة ، والنهي على ما إذا كانت مصرورة لهذا الحديث ، لكن وقع عند أحمد في آخره : " فإن كنتم لا بد فاعلين ، فاشربوا ، ولا تحملوا " ، فدل على عموم الإذن في المصرورة وغيرها ، لكن بقيد عدم الحمل ، ولا بد منه ، واختار ابن العربي الحمل على العادة ، قال : وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا ، قال : ورأى بعضهم أن مهما كان على الطريق لا يعدل إليه ، ولا يقصد جاز للمار الأخذ منه ، وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المجتاز .

                                                                                                          وأشار أبو داود في السنن إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو ، وآخرون إلى قصر الإذن على ما كان لأهل الذمة ، والنهي على ما إذا كان للمسلمين ، واستؤنس بما شرطه الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين ، وصح ذلك عن عمر .

                                                                                                          وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال : لا يؤخذ منه شيئا إلا بإذنه ، قيل له : فالضيافة التي جعلت عليهم ، قال : كانوا يومئذ فخفف عنهم بسببها ، وأما الآن فلا .

                                                                                                          وجنح بعضهم إلى [ ص: 598 ] نسخ الإذن وحمله على أنه كان قبل وجوب الزكاة ، قالوا : وكانت الضيافة حينئذ واجبة ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة .

                                                                                                          وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام ، وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه ، واستعمال القياس في النظائر ، وذكر الحكم بعلته بعد ذكر العلة ، تأكيدا أو تقريرا ، وأن القياس لا يشترط في صحته مساواة الأصل للفرع بكل اعتبار ، بل ربما كانت للأصل مزية لا يتميز سقوطها في الفرع ، إذا شارك في أصل الصفة ؛ لأن الضرع لا يساوي الخزانة في الخزن ، كما أن الضرع لا يساوي الفعل فيه ، ومع ذلك فقد ألحق الشارع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كل منهما بغير إذن صاحبه أشار إليه ابن المنير ، وفيه إباحة خزن الطعام ، واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه ، خلافا لغلاة المتزهدة المانعين من الادخار مطلقا ، قاله القرطبي : وأن اللبن يسمى طعاما ، وفيه غير ذلك ذكره الحافظ ، وأخرجه البخاري في اللقطة عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم في القضاء عن يحيى كلاهما عن مالك به ، وتابعه جماعة عن نافع في الصحيحين وغيرهما .




                                                                                                          الخدمات العلمية