الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

294 - والخلف في مبتدع ما كفرا قيل يرد مطلقا واستنكرا      295 - وقيل بل إذا استحل الكذبا
نصرة مذهب له ونسبا      296 - للشافعي إذ يقول : أقبل
من غير خطابية ما نقلوا      297 - والأكثرون ورآه الأعدلا
ردوا دعاتهم فقط ونقلا      298 - فيه ابن حبان اتفاقا ورووا
عن أهل بدع في الصحيح ما دعوا

[ رواية المبتدع ] : الثامن : في المبتدع ، والبدعة هي ما أحدث على غير مثال متقدم ، فيشمل المحمود والمذموم ، ولذا قسمها العز بن عبد السلام ، كما أشير إليه إن شاء الله عند التسميع بقراءة اللحان ، إلى الأحكام الخمسة ، وهو واضح ، [ ص: 62 ] ولكنها خصت شرعا بالمذموم مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمبتدع من اعتقد ذلك لا بمعاندة بل بنوع شبهة .

( والخلف ) أي : الاختلاف واقع بين الأئمة ( في ) قبول رواية ( مبتدع ) معروف بالتحرز من الكذب ، وبالتثبت في الأخذ والأداء مع باقي شروط القبول ( ما كفرا ) أي : لم يكفر ببدعته تكفيرا مقبولا ; كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذاك الغلو ، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافا ظاهرا ، لكنه مستند إلى تأويل ظاهر سائغ .

( قيل يرد مطلقا ) الداعية وغيره ; لاتفاقهم على رد الفاسق بغير تأويل ، فيلحق به المتأول ، فليس ذلك بعذر ، بل هو فاسق بقوله وبتأويله ، فيضاعف فسقه ، كما استوى الكافر المتأول والمعاند بغير تأويل .

قال غير واحد ، منهم ابن سيرين : " إن هذا العلم دين ، فانظر عمن تأخذ دينك " ، بل روي مرفوعا من حديث أنس وأبي هريرة .

وكذا روي عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم قال له : ( ( يا ابن عمر ، دينك دينك ، إنما هو [ ص: 63 ] لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ) ) ، ولا يصح . وقال علي بن حرب : من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة ; فإنهم لا يكذبون ، كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي . وهذا القول ، كما قال الخطيب في الكفاية ، مروي عن طائفة من السلف ، منهم مالك ، وكذا نقله الحاكم عنه ، ونصه في المدونة في غير موضع يشهد له ، وتبعه أصحابه ، وكذا جاء عن القاضي أبي بكر الباقلاني وأتباعه ، بل نقله الآمدي عن الأكثرين ، وجزم به ابن الحاجب .

( واستنكرا ) أي : أنكر هذا القول ابن الصلاح ; فإنه قال : إنه بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث ; فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ، كما سيأتي آخر هذه المقالة ، وكذا [ ص: 64 ] قال شيخنا : إنه بعيد قال : وأكثر ما علل به أن في الرواية عنه ترويجا لأمره ، وتنويها بذكره ، وعلى هذا ينبغي أن لا يروى عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع .

قلت : وإلى هذا التفصيل مال ابن دقيق العيد ; حيث قال : إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو ; إخمادا لبدعته ، وإطفاء لناره ، يعني لأنه كان يقال كما قال رافع بن أشرس : من عقوبة الفاسق المبتدع ألا تذكر محاسنه . وإن لم يوافقه أحد ، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده ، مع ما وصفنا من صدقه ، وتحرزه عن الكذب ، واشتهاره بالتدين ، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته .

( وقيل ) : إنه لا يرد المبتدع مطلقا ( بل إذا استحل الكذبا ) في الرواية أو الشهادة ( نصرة ) أي : لنصرة ( مذهب له ) أو لغيره ممن هو متابع له ، كما كان محرز أبو رجاء يفعل حسما ، حكاه عن نفسه بعد أن تاب من بدعته ; فإنه كان يضع الأحاديث يدخل بها الناس في القدر ، وكما حكى ابن لهيعة عن بعض الخوارج ممن تاب أنهم كانوا إذا هووا أمرا صيروه حديثا ، فمن لم يستحل الكذب كان مقبولا ; لأن اعتقاد حرمة الكذب يمنع من الإقدام عليه ، فيحصل صدقه .

( ونسبا ) هذا القول فيما نقله الخطيب في الكفاية ( للشافعي ) رحمه الله ; ( إذ يقول ) أي : لقوله [ ص: 65 ] ( أقبل من غير خطابية ) بالمعجمة ثم المهملة المشددة ، طائفة من الرافضة ، شرحت شيئا من حالهم في الموضوع ( ما نقلوا ) لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ، ونص عليه في الأم والمختصر ، قال : لأنهم يرون شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول : لي على فلان كذا ، فيصدقه بيمينه أو غيرها ، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب .

ونحوه قول بعضهم عنهم : كان إذا جاء الرجل للواحد منهم فزعم أن له على فلان كذا أو أقسم بحق الإمام على ذلك يشهد له بمجرد قوله وقسمه ، بل قال الشافعي فيما رواه البيهقي في المدخل ، والخطيب في الكفاية : ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة ، فإما أن يكون أطلق الكل وأراد البعض ، أو أطلق في اللفظ الأول البعض لكونهم أسوأ كذبا وأراد الكل .

وكذا قال أبو يوسف القاضي : أجيز شهادة أصحاب الأهواء أهل الصدق منهم ، إلا الخطابية والقدرية ، الذين يقولون : إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون . رواه الخطيب في الكفاية ، على أن بعضهم ادعى أن الخطابية لا يشهدون بالزور ; فإنهم لا يجوزون الكذب ، بل من كذب عندهم فهو مجروح مقدوح فيه ، خارج عن درجة الاعتبار رواية وشهادة ، فإنه خرج بذلك عن مذهبهم ، فإذا سمع بعضهم بعضا قال شيئا عرف أنه ممن لا يجوز الكذب ، فاعتمد قوله لذلك ، وشهد بشهادته ، فلا يكون شهد بالزور لمعرفته أنه محق .

ونازعه البلقيني بأن ما بنى عليه شهادته أصل باطل ، فوجب رد شهادته ، لاعتماده [ ص: 66 ] أصلا باطلا ، وإن زعم أنه حق ، وتبعه ابن جماعة . ومن هنا نشأ الاختلاف فيما لو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد فيها على قول المدعي ، بأن قال : سمعت فلانا يقر بكذا لفلان ، أو رأيته أقرضه ، في القبول والرد .

وعن الربيع ، سمعت الشافعي يقول : كان إبراهيم بن أبي يحيى قدريا ، قيل للربيع : فما حمل الشافعي على أن روى عنه ؟ قال : كان يقول : لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب ، وكان ثقة في الحديث .

ولذا قيل كما قاله الخليلي في الإرشاد : إن الشافعي كان يقول : حدثنا الثقة في حديثه ، المتهم في دينه .

قال الخطيب : وحكي أيضا أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري . ونحوه عن أبي حنيفة ، بل حكاه الحاكم في المدخل عن أكثر أئمة الحديث .

وقال الفخر الرازي في المحصول : إنه الحق . ورجحه ابن دقيق العيد . وقيل : يقبل مطلقا ، سواء الداعية وغيره كما سيأتي ; لأن تدينه وصدق لهجته يحجزه عن الكذب ، وخصه بعضهم بما إذا كان المروي يشتمل على ما ترد به بدعته ; لبعده حينئذ عن التهمة جزما ، وكذا خصه بعضهم بالبدعة الصغرى ; [ ص: 67 ] كالتشيع سوى الغلاة فيه وغيرهم ; فإنه كثر في التابعين وأتباعهم ، فلو رد حديثهم لذهب جملة من الآثار النبوية ، وفي ذلك مفسدة بينة .

أما البدعة الكبرى ; كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحط على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلا ولا كرامة ، لا سيما ولست أستحضر الآن من هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا ، بل الكذب شعارهم ، والنفاق والتقية دثارهم ، فكيف يقبل من هذا حاله ، حاشا وكلا ، قاله الذهبي .

قال : والشيعي والغالي في زمن السلف وعرفهم من تكلم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممن حارب عليا ، وتعرض لسبهم . والغالي في زمننا وعرفنا هو الذي كفر هؤلاء السادة وتبرأ من الشيخين أيضا ، فهذا ضال مفتر . ونحوه قول شيخنا في أبان بن تغلب من تهذيبه : التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان ، وأن عليا كان مصيبا في حروبه ، وأن مخالفه مخطئ ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما ، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان معتقد ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا ، لا سيما إن كان غير داعية . وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض ، فلا يقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة .

( والأكثرون ) من العلماء ( ورآه ) ابن الصلاح ( الأعدلا ) والأولى من الأقوال ( ردوا دعاتهم فقط ) . قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : لم رويت عن أبي معاوية الضرير وكان مرجئا ، ولم ترو عن [ ص: 68 ] شبابة بن سوار وكان قدريا ؟ قال : لأن أبا معاوية لم يكن يدعو إلى الإرجاء ، وشبابة كان يدعو إلى القدر .

وحكى الخطيب هذا القول ، لكن عن كثيرين ، وتردد ابن الصلاح في عزوه بين الكثير أو الأكثر . نعم ، حكاه بعضهم عن الشافعية كلهم ، بل ( ونقلا فيه ابن حبان اتفاقا ) حيث قال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي من ثقاته : وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز ، فإذا دعا إليها سقط الاحتجاج بأخباره .

وليس صريحا في الاتفاق لا مطلقا ولا بخصوص الشافعية ، ولكن الذي اقتصر ابن الصلاح عليه في العزو له الشق الثاني ، فقال : قال ابن حبان : " الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ، لا أعلم بينهم فيه اختلافا " ، على أنه محتمل أيضا لإرادة الشافعية أو مطلقا .

وعلى الثاني فالمحكي عن مالك وغيره يخدش فيه ، على أن القاضي عبد الوهاب في الملخص فهم من قول مالك : [ ص: 69 ] " لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه " التفصيل ، ونازعه القاضي عياض ; فإن المعروف عنه الرد مطلقا ، يعني كما تقدم ، وإن كانت هذه العبارة محتملة ، وبالجملة فقد قال شيخنا : إن ابن حبان أغرب في حكاية الاتفاق ، ولكن يشترط مع هذين ، أعني كونه صدوقا غير داعية ، أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها ويزينها ; فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى ، أفاده شيخنا .

وإليه يومئ كلام ابن دقيق العيد الماضي ، بل قال شيخنا : إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي ، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل : ومنهم زائغ عن الحق ، صدوق اللهجة ، قد جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر ، إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمون بذلك .

( و ) قد ( رووا ) أي : الأئمة النقاد كالبخاري ومسلم ، أحاديث ( عن ) جماعة ( أهل بدع ) بسكون الدال ( في الصحيح ) على وجه الاحتجاج ; لأنهم ( ما دعوا ) إلى بدعهم ، ولا استمالوا الناس إليها ، منهم خالد بن مخلد ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، وهما ممن [ ص: 70 ] اتهم بالغلو في التشيع ، وعبد الرزاق بن همام ، وعمرو بن دينار ، وهما بمجرد التشيع ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسلام بن مسكين ، وعبد الله بن أبي نجيح المكي ، وعبد الوارث بن سعيد ، وهشام الدستوائي ، وهم ممن رمي بالقدر ، وعلقمة بن مرثد ، وعمرو بن مرة ، ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير ، ومسعر بن كدام ، وهم ممن رمي بالإرجاء .

وكالبخاري وحده لعكرمة مولى ابن عباس ، وهو ممن نسب إلى الإباضية من آراء الخوارج ، وكمسلم وحده لأبي حسان الأعرج ، ويقال إنه كان يرى رأي الخوارج .

وكذا أخرجا لجماعة في المتابعات كداود بن الحصين ، وكان متهما برأي الخوارج ، والبخاري وحده فيها لجماعة ، كسيف بن سليمان وشبل بن عباد ، مع أنهما كانا ممن يرى القدر في آخرين عندهما اجتماعا ، وانفرادا في الأصول والمتابعات ، يطول سردهم ، بل في ترجمة محمد بن يعقوب بن الأخرم من ( تأريخ نيسابور ) للحاكم من قوله : إن كتاب مسلم ملآن من الشيعة ، مع ما اشتهر من قبول الصحابة رضي الله عنهم أخبار الخوارج وشهاداتهم ، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين ، فصار ذلك - كما قال الخطيب - كالإجماع منهم ، وهو أكبر الحجج في هذا الباب ، وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب .

وربما تبرأ بعضهم مما نسب إليه ، أو [ لم يثبت عنه ، أو ] رجع وتاب .

فإن قيل : قد خرج البخاري لعمران بن حطان السدوسي الشاعر الذي قال فيه أبو العباس المبرد : إنه كان رأس العقد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم [ ص: 71 ] وشاعرهم ، مع كونه كان داعية إلى مذهبه ، فقد مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي ، وذلك من أكبر الدعوة إلى البدعة .

وأيضا فالقعدية قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ولا يرون بالخروج ، بل يدعون إلى آرائهم ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه ، وكذا لعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، مع قول أبي داود فيه : إنه كان داعية إلى الإرجاء . فقد أجيب عن التخريج لأولهما بأجوبة :

أحدها : أنه إنما خرج له ما حمل عنه قبل ابتداعه .

ثانيها : أنه رجع في آخر عمره عن هذا الرأي . وكذا أجيب بهذا عن تخريج الشيخين معا لشبابة بن سوار مع كونه داعية .

ثالثها : وهو المعتمد المعول عليه ، أنه لم يخرج له سوى حديث واحد مع كونه في المتابعات ، ولا يضر فيها التخريج لمثله .

وأجاب شيخنا عن التخريج لثانيهما بأن البخاري لم يخرج له سوى حديث واحد قد رواه مسلم من غير طريق الحماني ، فبان أنه لم يخرج له إلا ما له [ ص: 72 ] أصل .

هذا كله في البدعة غير المكفرة ، أما المكفرة وفي بعضها ما لا شك في التكفير به كمنكري العلم بالمعدوم ، القائلين ما يعلم الأشياء حتى يخلقها ، أو بالجزئيات ، والمجسمين تجسيما صريحا ، والقائلين بحلول الإلهية في علي أو غيره .

وفي بعضها ما اختلف فيه ، كالقول بخلق القرآن والنافين للرؤية ، فلم يتعرض ابن الصلاح للتنصيص على حكاية خلاف فيها .

وكذا أطلق القاضي عبد الوهاب في الملخص ، وابن برهان في الأوسط عدم القبول ، وقالا : لا خلاف فيه . نعم ، حكى الخطيب في الكفاية عن جماعة من أهل النقل والمتكلمين أن أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة ، وإن كانوا كفارا أو فساقا بالتأويل .

وقال صاحب ( المحصول ) : الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته ; لأن اعتقاده - كما قدمت - يمنعه من الكذب ، وإلا فلا .

قال شيخنا : والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة ; لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة ، وقد تبالغ فتكفرها ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف .

فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع ، معلوما من [ ص: 73 ] الدين بالضرورة ; أي : إثباتا ونفيا ، فأما من لم يكن بهذه الصفة ، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه ، فلا مانع من قبوله .

وقال أيضا : والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله ، وكذا من كان لازم قوله ، وعرض عليه فالتزمه ، أما من لم يلتزمه وناضل عنه ; فإنه لا يكون كافرا ، ولو كان اللازم كفرا ، وينبغي حمله على غير القطعي ; ليوافق كلامه الأول .

وسبقه ابن دقيق العيد فقال : الذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ; إذ لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار قطعي من الشريعة ، فإذا اعتبرنا ذلك انضم إليه الورع والتقوى فقد حصل معتمد الرواية ، وهذا مذهب الشافعي حيث يقبل شهادة أهل الأهواء ، قال : وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام ، فأشار بذلك إلى أنهم من أهل القبلة فتقبل روايتهم ، كما نرثهم ونورثهم ، وتجرى عليهم أحكام الإسلام .

وممن صرح بذلك النووي ، فقال في الشهادات من ( الروضة ) : جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة .

وقال في شروط الأئمة منها : ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة وغيرهم ، [ ص: 74 ] ومناكحتهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم .

وقد قال الشافعي في الأم : ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا ، واستحل بعضهم من بعض بما تطول حكايته ، وكان ذلك متقادما منه ما كان في عهد السلف وإلى اليوم ، فلم نعلم من سلف الأئمة من يقتدى به ، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل ، وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله عليه فلا يرد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمل ، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم ، انتهى .

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رويناه عنه : " لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية