الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 489 ] ثم هنا مسائل :

                الأولى : أقل الجمع ثلاثة ، وحكي عن المالكية ، وابن داود ، وبعض الشافعية ، والنحاة أنه اثنان .

                لنا : إجماع أهل اللغة على الفرق بين الجمع والتثنية في التكلم والتصنيف ، وعدم نعت أحدهما وتأكيده بالآخر ; نحو : رجال اثنان ، أو رجلان ثلاثة ، أو الرجال كلاهما ، أو الرجلان كلهم ، وصحة : ليس الرجلان رجالا ، وبالعكس .

                قالوا : هذان خصمان اختصموا [ الحج : 19 ] ، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ الحجرات : 9 ] ، نبأ الخصم إذ تسوروا [ ص : 21 ] ، وكان اثنين إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] وحجب الأم إلى السدس بأخوين ، وهما في الآية بلفظ الجمع ، الاثنان فما فوقهما جماعة ، ومعنى الجمع حاصل في التثنية ، وهو الضم .

                وأجيب : بأن الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير أو جمع ضمير الطائفتين باعتبار أفرادهما ، و ( قلوبكما ) تثنية معنوية فرارا من اجتماع تثنيتين في كلمة واحدة ، ولولا الإجماع لاعتبر في حجب الأم ثلاثة ، كمذهب ابن عباس ; ولما قال لعثمان : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، احتج بالإجماع ، وما منع والاثنان جماعة في حصول الفضيلة حكما لا لفظا ، إذ الشارع يبين الأحكام لا اللغات ، والآخر قياس في اللغة أو طرد للاشتقاق ، وهما ممنوعان .

                [ ص: 490 ]

                التالي السابق


                [ ص: 490 ] قوله : " ثم هنا مسائل " ، أي : بعد أن انتهى الكلام في حد العام ، ومراتبه ، وإثباته بالحجة ، ودفع شبه النفاة له على ما مر ، وذلك كالقاعدة الكلية للباب ; فهاهنا مسائل كالجزئيات له :

                " الأولى : أقل الجمع ثلاثة " ، عند الأكثرين منهم الأئمة الأربعة إلا مالكا ، " وحكي عن المالكية وابن داود الظاهري وبعض الشافعية والنحاة أنه اثنان " ، وحكاه أيضا في " المحصول " عن القاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجمع من الصحابة والتابعين . وحكى الآمدي القول الأول عن ابن عباس وأبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابه ومشايخ المعتزلة ، والثاني عن عمر ، وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر ، والأستاذ أبي إسحاق والغزالي وبعض الشافعية .

                " لنا " على الأول وجوه :

                أحدها : أن أهل اللغة أجمعوا " على الفرق بين التثنية والجمع في التكلم والتصنيف " .

                أما في التكلم ; فلأنهم يقولون : رجلان ورجال ، وأما في التصنيف ; فلأنه ما من كتاب في العربية إلا ويوجد فيه باب التثنية وباب الجمع ، وأن رفع التثنية بالألف والنون ، نحو : الزيدان ، ورفع الجمع بالواو والنون ، نحو : الزيدون ، وحيث أجمعوا على الفرق بين التثنية والجمع ، وعلى الفرق بين [ ص: 491 ] ضمير الاثنين والجمع ، نحو : ضربا وضربوا ، ويضربان ويضربون ، وضاربان ، وضاربون ، دل على أن الاثنين ليسا جمعا ، وهو المطلوب .

                فإن قيل : يجوز أنهم فرقوا بينهما فرقا نوعيا بمعنى أن التثنية نوع جمع ، لكنه اختص بما أوجب إفراده بالذكر في التكلم والتصنيف ، كما أن الإنسان نوع من الحيوان ، ويفرد عنه بحده وخواصه ، وهذا سؤال قوي على هذا الدليل .

                والجواب عنه بالطريق العام ، هو أن الجواز لا يكفي في الثبوت ، بل لا بد من دليل زائد عليه ، ونحن لا ننازع في جواز أن أقل الجمع اثنان ، لكن في ثبوته ووقوعه ; فأين دليله ؟ وما ذكرتموه من الأدلة على ذلك معارض بجوابه وبأدلتنا ; فيسقط ، ويبقى الأصل ، وهو عدم دعواكم .

                الوجه الثاني : لو كان الاثنان أقل الجمع ، لجاز لفت أحدهما بالآخر ، لكن ذلك لا يجوز ; فلا يكون الاثنان أقل الجمع .

                أما الملازمة ; فلأن أقل الشيء يصدق عليه اسم ذلك الشيء وحقيقته ، كما أن أقل الماء ماء ، وأن أقل العدد عدد ، وإنما قلنا ذلك ; لأن معنى أقل الشيء أنه شيء في نهاية القلة ، وذلك يقتضي أن الاثنين جمع في نهاية القلة ; فيكون مشاركا لأكثر الجمع في ماهية الجمع ، وذلك يقتضي جواز نعت أحدهما بالآخر باعتبار الماهية المشتركة ، أو يخبر عنه به ، وأما انتفاء اللازم ; فلأنه لا يجوز أن يقال : هؤلاء رجال اثنان ، ولا هذان رجلان ثلاثة ، ولا يقال : الرجال رجلان ، ولا الرجلان رجال ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم ،

                [ ص: 492 ] وذلك يقتضي أن الاثنين ليسا أقل الجمع ; فلا يكون ذلك جمعا .

                الوجه الثالث : لو كان الاثنان أقل الجمع ، لجاز تأكيد أحدهما بالآخر ، لكن ذلك لا يجوز ; فلا يكون الاثنان أقل الجمع . وتقرير الملازمة ما سبق في الوجه قبله . وأما انتفاء اللازم ; فلأنه لا يصح أن يقال : قام الرجال كلاهما ، ولا قام الرجلان كلهم ; فدل ذلك على ما ذكرناه .

                الوجه الرابع : أنا قدمنا في اللغات أن صحة النفي تدل على انتفاء الحقيقة ، ولا شك في صحة قولنا : ليس الرجلان رجالا ، وبالعكس ، ليس الرجال رجلين ، وذلك يدل على أن الاثنين ليسا جمعا حقيقة ، كما أن الرجال ليس تثنية حقيقية ; فثبت بهذه الوجوه أن الاثنين ليسا جمعا بالحقيقة ، وإنما يطلق عليهما جمعا بطريق المجاز عند من يطلقه .

                قوله : " قالوا : هذان خصمان " ، أي : قال المخالفون : الدليل على أن أقل الجمع اثنان وجوه :

                أحدها : قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم [ الحج : 19 ] ، وخصمان مثنى ، والضمير في اختصموا ضمير جمع ، وقد رده إلى خصمان ، والضمير يجب أن يطابق ما يرجع إليه ; فدل على أن خصمان مطابق لضمير الجمع ، وذلك يقتضي كونه جمعا ; فإذن خصمان جمع ، وهو مثنى ; فالمثنى أقل الجمع ; لأن ما قبله إلا الواحد ، وليس بجمع بالإجماع .

                الوجه الثاني : قوله عز وجل : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ ص: 493 ] [ الحجرات : 9 ] ; فرد إلى المثنى ضمير الجمع ، والتقرير ما سبق .

                الوجه الثالث : قوله عز وجل : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب [ ص : 21 ] ، وكان الخصم المذكور اثنين ، بدليل قوله سبحانه وتعالى بعد : خصمان بغى بعضنا على بعض إلى قوله : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة [ ص : 22 ، 23 ] وقد رد ضمير الجمع إلى الاثنين كما سبق .

                الوجه الرابع : قوله عز وجل : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ; فجمع القلب ، والخطاب لاثنين ; فدل على أنهما جمع .

                الوجه الخامس : قوله عز وجل : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء : 11 ] ; فأثبت لأمه السدس مع الأخوة وهم جمع ، والجمهور على أنها تحجب من الثلث إلى السدس بأخوين ; فدل على أنهما جمع .

                الوجه السادس : قوله عليه السلام : الاثنان فما فوقهما جماعة .

                [ ص: 494 ] وتقريره : الاثنان جماعة فما فوقهما فأخبر عن الاثنين بأنهما جماعة ، وهو نص في المقصود ، وهو صلى الله عليه وسلم ، من أهل اللغة .

                الوجه السابع : أن معنى الجمع الضم ، وهو حاصل في التثنية ، إذ التثنية ضم اسم إلى مثله ، والجمع ضم اسم إلى أكثر منه ، وذلك يفيد أن التثنية نوع جمع باعتبار القدر المشترك بينهما ، وهو الضم ، كما أن الإنسان نوع حيوان باعتبار المشترك بينهما ، وهو الحيوانية ; فثبت بهذه الوجوه أن التثنية أقل الجمع .

                قوله : " وأجيب " أي : عن هذه الوجوه .

                أما عن الثلاثة الأول ; فبأن " الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير " . [ ص: 495 ] يقال : هذا رجل خصم ، ورجلان خصم ، ورجال خصم ; لأنه من باب الوصف بالمصدر ، نحو : رجل ضيف ، ورجال ضيف ، وقال الله عز وجل : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين [ التوبة : 122 ] ، ويكفي في ذلك واحد ; لأن خبره مقبول في التعليم والتحذير . وقال الله عز وجل : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ النور : 2 ] ، والمراد جماعة منهم ، وإذا كان الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير ، لم يبق في الآيات حجة على أن الاثنين أقل الجمع ، لجواز أنهم في جميع الآيات أكثر من اثنين ، أو يقال في الطائفتين : إنه جمع ضميرهما باعتبار أفرادهما ; لأن الطائفة غالبا تطلق على أفراد متعددة ; فجمع الضمير باعتبار أفراد الطائفتين ، وثناهما باعتبار مجموع كل واحدة منهما ، وكذا الكلام في : هذان خصمان اختصموا [ الحج : 19 ] ; لأنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة بن ربيعة وأخاه وابنه الوليد يوم بدر ; فكل خصم من الخصمين في الآية ثلاثة ; فهما جميعا ستة ; فجمع الضمير باعتبار الأفراد ، وهي ستة ، وتثنية الخصم باعتبار الكفر والإيمان اللذين اختصموا فيهما .

                وأما عن الرابع ، وهو قوله عز وجل : فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] فمن وجهين :

                [ ص: 496 ] أحدهما - وهو الذي في " المختصر " - : أن هذه تثنية معنوية ، أي : هي تثنية في المعنى ، وإن كانت جمعا في اللفظ ، وذلك لأن التثنية على ضربين : لفظية : وهي إلحاق الاسم المفرد ألفا ونونا ليدلا على أن معه مثله ، نحو : زيدان وهندان ومسلمان ومسلمتان ، ومعنوية : وهو ما أضيف من ذلك إلى اثنين ; فيجتمع فيه تثنيتان ; فيستثقل ; فيرد إلى الجمع تخفيفا مثل : قلوبهما ، ورؤوسهما وظهورهما ، وبطونهما ، إذ تثنيته اللفظية : قلباهما ورأساهما ، وظهراهما وبطناهما ، وقد يخرج على أصله كقول الشاعر :


                ظهراهما مثل ظهور الترسين .

                فجمع بين اللفظية والمعنوية .

                والوجه الثاني : ذكره في المعالم وغيره ، وهو أن القلب قد يطلق على [ ص: 497 ] الميل الحاصل في القلب ; فيقال للمنافق : إنه ذو قلبين ، والمؤمن له قلب واحد ، ولسان واحد ، وإذا كان هذا سائغا ، وجب حمل القلوب على الإرادات الحاصلة في القلب بطريق المجاورة ، كما سمي العقل قلبا ; لأنه محله في قوله عز وجل : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب [ ق : 37 ] .

                قلت : ويقوي هذا التأويل ما رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ، قال : مالت قلوبكما .

                قلت : والصغو : الميل ، وهو الإرادة ، وقد يتعدد لتقلب القلب مرة كذا ، ومرة كذا ومنه في الحديث : يا مقلب القلوب . وقول الشاعر :


                وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب

                وأما عن الخامس : وهو أن الإخوة جمع وقد حجبت الأم إلى السدس [ ص: 498 ] باثنين ; فبأن نقول : لولا الإجماع ، لاعتبر في حجب الأم ثلاثة ، كمذهب ابن عباس رضي الله عنهما ، ولهذا لما قال ابن عباس لعثمان رضي الله عنهم : لم حجبت الأم بالاثنين من الإخوة ، وإنما قال الله تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء : 11 ] ، وليس الأخوان إخوة في لسانك ولا لسان قومك ؟ فقال له عثمان : لا أنقض أمرا كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار . فاحتج عثمان بالإجماع ، وما منع أن الأخوين ليسا إخوة ، ولو كانا إخوة في اللغة ولو لغة قوم من العرب وإن شذوا ، لرد على ابن عباس ، وقال له : بلى ، الأخوان إخوة في لساني أو لسان بني فلان حملا للقرآن على ظاهره ; لأنه الواجب ما أمكن ، فلما عدل عن ذلك إلى الإجماع ، دل على صحة ما قاله ابن عباس من أن الأخوين ليسا إخوة في لغة العرب ، وهو يدل على أن التثنية ليست جمعا وهو المطلوب .

                وأما عن السادس ; فبأن المراد بالاثنين جماعة في حصول فضيلة الصلاة جماعة من حيث الحكم الشرعي ، لا من حيث اللفظ اللغوي ; لأن الشارع إنما يبين الأحكام التي بعث لبيانها لا اللغات التي عرفت من غيره .

                [ ص: 499 ] وأما عن السابع - وهو قولهم : معنى الجمع الضم ، وهو حاصل في التثنية - فبأن هذا " قياس في اللغة أو طرد للاشتقاق وهما ممنوعان " ، أما كونه قياسا في اللغة ; فلأنكم حكمتم على التثنية بأنها جمع بجامع الضم المشترك بينهما . وأما كونه طردا للاشتقاق ; فلأنكم لما بينتم أن الجمع هو الضم ، طردتم معناه ; فأطلقتم الجمع حيث وجد الضم . وأما كونهما ممنوعين : أما القياس فقد سبق الخلاف فيه ، لكنا رجحنا جوازه في اللغة ; فلا يصح منا هاهنا منعه . ولكن الجواب الصحيح أن يقال : هذا القياس هاهنا فاسد ; لأنه مبني على أن اللغة في تسمية الجمع المتفق عليه هي الضم المطلق ، وهو ممنوع ، بل هي ضم خاص ، وهو ضم شيء إلى أكثر منه . وحينئذ يمتنع قياس التثنية عليه ، أو يبقى قياسا شبهيا ضعيفا لا يعبأ به . وأما طرد الاشتقاق ، فإن الاشتقاق يلاحظ فيه خصوصية المحل ، كما سبق تقريره في القياس اللغوي . وحينئذ يمتنع طرده ، وإلا لصح أن يسمى الجمل ضيغما ، وكل مدبر دبرانا ، وكل مستقر لشيء قارورة ، لوجود الضيغم ، والإدبار والاستقرار وهو باطل .

                إذا ثبت هذا ; ففائدة هذه المسألة أن كل حكم علق على جمع ; فإنه لا يحصل إلا بثلاثة منه على المشهور ، مثل أن يقول : لله علي أن أتصدق بدراهم ، أو أصوم أياما ، أو أصلي ركعات ، أو أعتق عبيدا أو إماء ، أو أتوضأ مرات ، أو أتمضمض بغرفات ، أو حلف بالطلاق ليتزوجن زوجات ، أو قالت له زوجته : طلقني على دراهم ، أو اخلعني على ما في يدي من الدراهم ، فلم يكن في يدها شيء ، أو قال لها : أنت طالق طلقات ، أو أقر لغيره بدراهم أو [ ص: 500 ] دنانير مطلقة ، وتعذر البيان من جهة المقر إلى غير ذلك من الأحكام ، يلزمه الإتيان بثلاثة مما ذكر على المشهور ما لم يدل دليل خارج على مقدار من العدد معين ، وقياس قول الخصم يكفيه اثنان . والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية