الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ هل في اللطمة والضربة قصاص ؟ ]

وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخرو أصحاب أحمد : إنه لا قصاص في اللطمة والضربة ، وإنما فيه التعزير ، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع ، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة فإن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل ، كما قال - تعالى - : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص ، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان ، والأمثل هو المأمور به ، فهذا الملطوم المضروب قد اعتدي عليه ، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به ، فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل ، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه ، ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها ، أو بمثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته ، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومحض القياس وهو منصوص الإمام أحمد ، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان ، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم له " باب في القصاص من اللطمة والضربة " : حدثني إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة ، فقال : " عليه القود من اللطمة والضربة " وبه قال أبو داود وأبو خيثمة وابن أبي شيبة .

وقال إبراهيم الجوزجاني " وبه أقول ، لما حدثنا شبابة بن سوار ثنا شعبة عن يحيى بن الحصين قال : سمعت طارق بن شهاب يقول : لطم أبو بكر رجلا يوما لطمة ، فقال له : اقتص ، فعفا الرجل ، حدثنا شبابة أنبأ شعبة عن مخارق قال : سمعت طارقا يقول : لطم ابن أخ لخالد بن الوليد [ ص: 241 ] رجلا من مراد ، فأقاده خالد منه .

حدثنا أبو بهز حدثنا أبو بكر بن عياش قال : سمعت الأعمش عن كميل بن زياد قال : لطمني عثمان ثم أقادني فعفوت ، حدثني ابن الأصفهاني حدثنا عبد السلام بن حرب عن ناجية عن عمه يزيد بن عربي قال : رأيت عليا - كرم الله وجهه في الجنة - أقاد من لطمة .

وحدثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبد الله بن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لطمة ، ثنا يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال : خطبنا عمر فقال : إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، ولكن إنما بعثتهم ليبلغوكم دينكم وسنة نبيكم ويقسموا فيكم فيئكم ، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه ، فقام إليه عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته لتقصنه منه ، فقال عمر : أنا لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ؟

ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن حرملة قال : تلاحى رجلان فقال أحدهما : ألم أخنقك حتى سلحت ؟ فقال : بلى ، ولكن لم يكن لي عليك شهود ، فاشهدوا على ما قال ، ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز ، فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيب فقال : يخنقه كما خنقه حتى يحدث ، أو يفتدي منه ، فافتدى منه بأربعين بعيرا ، فقال ابن كثير : أحسبه ذكره عن عثمان .

ثنا الحسين بن محمد ثنا ابن أبي ذئب عن المطلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا ، فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه ، فانكسر عظم كف الضارب ، فأقاد أبو بكر من أنف المضروب ولم يقد من يد الضارب ، فقال سعيد بن المسيب : كان لهذا أيضا القود من كفه ، قضى عثمان أن كل مقتتلين اقتتلا ضمنا ما بينهما ، فأقيد منه ، فدخل المسجد وهو يقول : يا عباد الله كسر ابن المسيب يدي ، قال الجوزجاني : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة أصحابه فإلى من يركن بعدهم ؟ ، أو كيف يجوز خلافهم ؟ "

قلت : وفي السنن لأبي داود والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال : { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فجرح وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعال فاستقد ، فقال : بل عفوت يا رسول الله } .

وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا ، فلاحاه رجل في صدقته ، فضربه أبو جهم فشجه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكم كذا وكذا فلم يرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكم كذا وكذا فرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا : نعم ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء أتوني يريدون القصاص ، فعرضت [ ص: 242 ] عليهم كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فرضوا ، أرضيتم ؟ فقالوا : لا ، فهم المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم ، فكفوا عنهم ، ثم دعاهم فزادهم ، فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم ، فقال : إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا : نعم ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم } .

وهذا صريح في القود في الشجة ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا ، ولو كان الواجب الأرش فقط لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حين طلبوا القود : إنه لا حق لكم فيه ، وإنما حقكم في الأرش .

فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا إجماع الصحابة ، وهذا ظاهر القرآن ، وهذا محض القياس ، فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا : اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة ، والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة .

ونظر الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس ، كما هو أتبع للكتاب والسنة ، فإن المماثلة من كل وجه متعذرة ، فلم يبق إلا أحد أمرين : قصاص قريب إلى المماثلة ، أو تعزير بعيد منها ، والأول أولى ; لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها ، بل قد يعزر بالسوط والعصا ، وقد يكون لطمه ، أو ضربه بيده ، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد ، وقد يزيد وينقص .

وفي العقوبة بجنس ما فعله تحر للمماثلة بحسب الإمكان ، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به وأنزل به الكتاب والميزان ، فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقدره ، وقد يساويه ، أو يزيد قليلا ، أو ينقص قليلا ، وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف ، كما لا يدخل تحت التكليف المساواة في الكيل والوزن من كل وجه كما قال تعالى { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } فأمر بالعدل المقدور ، وعفا عن غير المقدور منه .

وأما التعزير فإنه لا يسمى قصاصا ، فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة ، ومنه قص الأثر إذا اتبعه وقص الحديث إذا أتى به على وجهه ، والمقاصة : سقوط أحد الدينين بمثله جنسا وصفة ، وإنما هو تقويم للجناية ، فهو قيمة لغير المثلي والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف ، وهو ضرب له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل . وهو إما زائد وإما ناقص ، ولا يكون مماثلا ولا قريبا من المثل .

فالأول أقرب إلى القياس ، والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدل المتلف ، والنزاع أيضا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية وكثير من المعدودات والمذروعات ، فأكثر القياسيين من أتباع الأئمة الأربعة قالوا : الواجب في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة ، قالوا : لأن المثل في الجنس يتعذر ، ثم طرد أصحاب الرأي قياسهم فقالوا : وهذا هو الواجب في الصيد في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكا . ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا : لا يجوز قرض [ ص: 243 ] ذلك ; لأن موجب القرض رد المثل ، وهذا لا مثل له .

ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنة وآثار الصحابة [ على أنه ] يضمن بمثله من النعم وهو مثل مقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلا من كل وجه وهذا قول الجمهور ، منهم : مالك والشافعي وأحمد ، وهم يجوزون قرض الحيوان أيضا كما دلت عليه السنة الصحيحة ، فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح { أنه استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا ، وقال إن خياركم أحسنكم قضاء } ثم اختلفوا بعد ذلك في موجب قرض الحيوان ، هل يجب رد القيمة ، أو المثل ؟ على قولين ، وهما في مذهب أحمد وغيره ، والذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة أنه يجب رد المثل ، وهذا هو المنصوص عن أحمد ، ثم اختلفوا في الغصب والإتلاف على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب أحمد :

: أحدها : يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان .

والثاني : يضمن الجميع بالقيمة .

والثالث : أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية