الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الخطأ الثالث : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ، وجزمهم بموجبه ، لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم .

[ الاستصحاب وأقسامه ]

وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها فالاستصحاب : استفعال من الصحبة ، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا ، وهو ثلاثة أقسام : استصحاب البراءة الأصلية ، واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع .

[ استصحاب البراءة الأصلية ]

فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه : فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين : إنه يصلح للدفع لا للإبقاء ، كما قاله بعض الحنفية ، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لإبقاء الأمر على ما كان ، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم ، لا إلى عدم المغير له ، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا ، لا نثبت الحكم ولا ننفيه ، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته ، فيكون حال المتمسك [ بالاستصحاب ] كحال المعترض مع المستدل ، فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها ، لا أنه يقيم دليلا على نفي ما ادعاه ، وهذا غير حال المعارض ، فالمعارض لون والمعترض لون ، فالمعترض يمنع دلالة [ ص: 256 ] الدليل ، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه .

وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه ، قالوا : لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه .

[ استصحاب الوصف المثبت للحكم ]

ثم النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد " وإن وجدته غريقا فلا تأكله ، فإنك لا تدري : الماء قتله أو سهمك " وقوله : " وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا ؟ بقي الصيد على أصله في التحريم ، ولما كان الماء طاهرا فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك ، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث ، بل قال : " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " ، ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك ، ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين ، فإن أصل الأبضاع على التحريم ، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية ، وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة ، فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له ، فهذا الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عين الصواب ومحض القياس ، وبالله التوفيق .

ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع ، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين .

مثاله أن مالكا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ ; لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ، فإن قلتم : لا نخرجه من الطهارة بالشك ، قال مالك : ولا ندخله في الصلاة بالشك ، فيكون قد خرج منها الشك ، فإن قلتم : يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك ، قال منازعهم : ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك ، قالوا : والحديث الذي تحتجون به من أكبر حججنا ، فإنه منع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقنة أن يخرج منها بالشك ، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك ؟

ومن ذلك لو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فإن مالكا يلزمه بالثلاث ; لأنه تيقن طلاقا وشك هل هو مما تزيل أثره الرجعة أم لا ؟ وقول الجمهور في هذه المسألة أصح ، فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك ولم يعارض يقين [ ص: 257 ] النكاح إلا شك محض فلا يزول به ، وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي شك في انتقاضها ، فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها ، ولا يقال هنا : إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحل ، فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه ، فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله ، فإن قيل : هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرجعة ، فكان جانب التحريم أقوى ، قيل : ليست الرجعية بمحرمة ، وله أن يخلو بها ، ولها أن تتزين له وتتعرض له ، وله أن يطأها ، والوطء رجعة عند الجمهور ، وإنما خالف في ذلك الشافعي وحده ، وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة ، ولو سلم أنها محرمة فقولكم " إنه متيقن للتحريم " إن أردتم به التحريم المطلق فإنه غير متيقن ، وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث ، فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث ، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص ، وهذا في غاية الظهور .

فصل [ استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ]

القسم الثالث : استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة ؟ على قولين :

أحدهما : أنه حجة ، وهو قول المزني والصيرفي وابن شاقلا وابن حامد وأبي عبد الله الرازي .

والثاني : ليس بحجة ، وهو قول أبي حامد وأبي الطيب الطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني ، وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة ، فأما بعد الرؤية فلا إجماع ، فليس هناك ما يستصحب ، إذ يمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع ، والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته ، أو لأمر منتف فيستصحب نفيه ، قال الأولون : غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع ، وهذا حق ، ونحن لم ندع الإجماع في محل النزاع ، بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيله ، قال الآخرون : الحكم إذا كان إنما ثبت بإجماع ، وقد زال الإجماع ، زال الحكم بزوال دليله ، فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبت بغير دليل .

وقال المثبتون : الحكم كان ثابتا ، وعلمنا بالإجماع ثبوته ، فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوال العلة زوال معلولها ، ومن زوال السبب زوال حكمه ، وإنما الإجماع دليل عليه ، وهو في نفس الأمر مستند إلى نص أو معنى نص ، فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر ، والدليل لا ينعكس ، فلا يلزم من انتفاء الإجماع [ ص: 258 ] انتفاء الحكم ، بل يجوز أن يكون باقيا ويجوز أن يكون منتفيا ، لكن الأصل بقاؤه ، فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث ، ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته ، وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الحكم الأول ، وإلى ما يحدث الثاني ، وإلى ما ينفيه ، فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر إليه الباقي ، فيكون البقاء أولى من التغير ، وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة ، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن به أنه شاغل ، ومع هذا فالأصل البراءة ، والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة .

ومن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة ، كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة .

وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل ، فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم ، كما يقطع ببقاء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها غير منسوخة ، وإن ظن انتفاء الناقل أو ظن انتفاء دلالته ظن انتفاء النقل ، وإن كان الناقل معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه تبين له انتفاء النقل ، مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء ، وإلا فمع تجويزه لكونه ناقضا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء ، وكذا كل من وقع النزاع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته ، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين ، وبالخارج النادر منهما ، وبمس النساء بشهوة وغيرها ، وبأكل ما مسته النار ، وغسل الميت ، وغير ذلك ، لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يوجب الانتقال ، وإلا بقي شاكا ، وإن لم يتبين له صحة الناقل - كما لو أخبره فاسق بخبر - فإنه مأمور بالتبين والتثبت ، لم يؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه فإن كليهما ممكن منه ، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال كما كان يستدل به بدون خبره ، ولهذا جعل لوثا وشبهة ، وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد ، ويلزم منه الشك في حال المشهود به ، فإذا تبين كونه عدلا تم الدليل ، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق ، فإنه في الشاهد قد يكون دليلا ولكن لا تعرف دلالته ، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل ، لكن يمكن وجود المدلول عليه في هذه الصورة ، فإن صدقه ممكن .

فصل [ الدليل على أنه حجة ]

ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه ، وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا [ ص: 259 ] يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل ، فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده ، كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد ، وتخليل الخمر ناقلا للحكم بتحريمها ، وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية ، وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا ، وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع ، والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام ، فلا يقبل قول المعترض : إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث ، فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم ، فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم ، وحينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب ، فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة .

التالي السابق


الخدمات العلمية