الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( المسألة الثانية )

من مسائل متعلقات الروح أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة ؟ هل في السماء أم في الأرض ؟ وهل هي في الجنة والنار أم لا ؟ وهل تودع في أجساد أم تكون مجردة ؟ فهذه من المسائل العظام قد تكلم فيها الناس واختلفوا في ذلك وهي إنما تتلقى من السمع فقط ، ومع ذلك فقد اختلف فيها أقوال العلماء ، وتباينت في محالها آراء الفضلاء ، فقال قوم : أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا أو غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم بالقبول والرحمة لهم ، وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم ومن نحا نحوهم .

وقالت طائفة هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها . وقالت طائفة الأرواح على أفنية قبورها . وقال الإمام مالك بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت . وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة .

وقال أبو عبد الله بن منده قالت طائفة من الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين عند الله عز وجل - ولم يزيدوا على ذلك ، قال وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببئر برهوت بحضرموت .

وقال صفوان بن عمرو سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان هل لأنفس المؤمنين مجتمع ؟ فقال إن الأرض التي يقول الله ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون قال هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حين يكون البعث ، وقالوا هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين في الدنيا ، وقال كعب : أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة ، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس . وقالت طائفة أرواح المؤمنين [ ص: 47 ] ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت .

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت . وهذا مثل قول الإمام مالك بل هو مستند له .

وقالت طائفة أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله . وقال ابن حزم ومن وافقه مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها . بناء على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد ، وتقدم ما فيه .

قال الإمام المحقق ابن القيم : جمهور الناس على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد والذين قالوا خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك ، والحاصل أن مدار حججهم على أخبار غير صحيحة أو نصوص صحيحة ولكن دلالتها على ما زعموه غير صريحة ، وقوله مستقرها بعد مفارقة أبدانها في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق أجسادها مبني على ما ذكر من اعتقاده وأن أرواح السعداء عن يمين آدم عليه السلام وأرواح الأشقياء عن يساره ، وزعمه أن ذلك عند منقطع العناصر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا يشبه أقوال أهل الإسلام ، والأحاديث الصحيحة تدل على أن الأرواح فوق العناصر في الجنة ، وأدلة القرآن تدل على ذلك ، وقد وافق ابن حزم الجمهور على أن أرواح الشهداء في الجنة ، ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم عند منقطع العناصر وذلك تحت هذا العالم الأدنى تحت السماء الدنيا وتكون أرواح شهداء زماننا فوق العناصر وفوق السماوات .

وأما زعم أبي محمد بن حزم أن الإمام إسحاق بن راهويه ذكر ما قاله وذهب إليه بعينه وقال على هذا جميع أهل الإسلام - باطل ، فإن إسحاق لم يقل إن مستقر الأرواح عند انقطاع العناصر وإنما قال محمد بن نصر المروزي في كتابه الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم الآية فذكر الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه ثم أخذ الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه قسمهم إذ ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم [ ص: 48 ] وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر ، ثم قال قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم الآية أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل . هذا نص كلامه وهو كما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح ما ذكر ابن حزم حيث منقطع العناصر بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كانت قبل الأجساد بل إنما يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها ثم ردها إلى صلب آدم . وهذا وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف كما مر فالذي صححه ابن القيم والجمهور خلافه . ولو سلم أن خلق الأرواح قبل الأجساد لم يكن فيه دليل على أن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر ولا أن هذا الموضع كان مستقرها أولا .

وقالت طائفة مستقر الأرواح بعد مفارقة أبدانها العدم المحض ، وهذا أيضا باطل لا يلتفت إليه فإن صاحب هذا القول يزعم أن الروح عرض من أعراض البدن وهو الحياة وقال به الباقلاني ومن وافقه وكذا قال أبو الهذيل العلاف المعتزلي النفس عرض من الأعراض ولم يعينه أنه الحياة كما عينه ابن الباقلاني بل قال الروح عرض كسائر أعراض الجسم ، وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه فلا تعذب ولا تنعم وإنما يعذب وينعم الجسد إذا شاء الله تعذيبه وتنعيمه رد إليه الحياة في وقت يريد تنعيمه وتعذيبه وإلا فلا روح هناك قائمة بنفسها ألبتة . وقال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب ، قال الإمام ابن القيم وهذا قول يرده الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطر ، قال وهو قول من لم يعرف روحه فضلا عن روح غيره والله أعلم .

وقالت طائفة أخرى مستقر الأرواح بعد الموت أبدان أخر غير هذه الأبدان فهذا فيه حق وباطل فحقه ما أخبر به الصادق المصدوق عن أرواح الشهداء أنها في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي لها كالأوكار للطائر ، وقد صرح بذلك في قوله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة " يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها ويكون ذلك [ ص: 49 ] لبعض المؤمنين والشهداء ، ويحتمل أن تكون الروح صورة طائر وهذا اختيار ابن حزم وابن عبد البر ، قال ابن حزم : معنى ذلك أن نسمة المؤمن طائر يعلق يعني أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ في صورة الطير ، قال ابن حزم : وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأويها ، قال والحديثان معا حديث واحد ، قال المحقق ابن القيم وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظا ومعنى فإن حديث " نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة " غير حديث " أرواح الشهداء في حواصل طير خضر " ، والذي ذكره محتمل في الأول وأما الثاني فلا يحتمله بوجه فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن أرواحهم في حواصل طير ، وفي لفظ آخر : في أجواف طير خضر ، وفي لفظ : بيض ، وأن تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار للطائر ، وقوله إن حواصل تلك الطير هي صفة تلك القناديل التي تأوي إليها خطأ قطعا بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير ، فهنا ثلاثة أمور شرح بها الحديث أرواح وطير هي في أجوافها وقناديل مأوى لتلك الطير ، والقناديل مستقرة تحت العرش لا تسرح والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها .

فإن قيل يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير لا أنها تركب في بدن طير كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر أرواحهم كطير خضر كما رواه ابن أبي شيبة قال أبو عمر بن عبد البر : الأشبه عندي والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صورة طير لمطابقته لحديث " نسمة المؤمن " .

وقد أجاب المحقق بأن هذا الحديث قد روي بهذين اللفظين والذي في صحيح مسلم من حديث الأعمش عن مسروق " أرواحهم في جوف طير خضر " وقد رواه ابن عباس وكعب بن مالك فلم يختلف حديثهما في أنها في أجواف طير خضر .

قال المحقق ولا محذور في هذا ولا يبطل قاعدة من قواعد الشرع ولا يخالف نصا من كتاب الله ولا سنة عن رسول الله بل هذا من تمام إكرام الله للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها لله تعالى أبدانا أخر خيرا منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم فإذا كان يوم [ ص: 50 ] القيامة رد أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت فيها في الدنيا . فإن قيل هذا هو القول بالتناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير أبدانها التي كانت فيها ، فالجواب هذا معنى دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله تسمية المسمي له تناسخا كنظائره مما دل عليه النقل ولم يحله العقل من صفات الله تعالى وحقائق أسمائه الحسنى حق لا يبطله تسمية المعطلين لها تركيبا وتجسيما ، قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه لا نزيل عن الله عز وجل صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين . فإن هذا شأن أهل البدع يلقبون أهل السنة وأقوالهم بالألقاب التي ينفرون عنها الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما ، ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة ليتوصلوا بذلك إلى نفي استوائه وعلوه على خلقه ، وكما تسميالرافضة موالاة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصبا ، وأمثال ذلك . والمقصود أن تسمية ما دلت عليه السنة الصريحة من جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى .

وأما ما اشتمل عليه من الباطل فالتناسخ الباطل الذي يقوله أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد ويزعمون أن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي كانت تناسبها وتشاكلها فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعم فيها وتعذب ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها وهلم جرا ، فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها لا معاد لها عندهم غير ذلك ، فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفق عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم وهو كفر بالله وباليوم الآخر ، فهذه الطائفة تقول إن مستقر الأرواح بعد مفارقة أبدانها الأصلية أبدان الحيوانات التي تناسبها وهو أبطل قول وأخبثه .

ويليه قول من يزعم أن الأرواح تعدم جملة بالموت ولا يبقى هناك روح تنعم ولا تعذب بل النعيم يقع على أجزاء الجسد أو على جزء منه أما عجب [ ص: 51 ] الذنب أو غيره فيخلق الله فيه الألم واللذة إما بواسطة رد الحياة كما قاله بعض أرباب هذا القول أو بدون رد الحياة كما قاله آخرون منهم فهؤلاء عندهم لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد . ويقابله من يقول إن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به والعذاب والنعيم على الروح فقط .

والصحيح خلاف هؤلاء وهؤلاء فالسنة الصحيحة المتواترة تبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومتفرقين .

وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم فلا دليل على هذا من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صحابي يجب أن يوثق به . وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببئر برهوت بحضرموت فقال ابن حزم هذا من قول الرافضة ، قال الإمام المحقق : وليس كما قال بل قاله جماعة من أهل السنة ، قال الحافظ أبو عبد الله بن منده روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية - ثم روى بسنده عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو أنه قال أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأن أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت . ثم روى بسنده عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكاب الناس عليه يسألونه فقال له رجل ( ؟ ) سله أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار ؟ فسأله فقال : أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت . قال ابن منده ورواه أبو داود وغيره .

ثم ساق بسنده عن أبي الطفيل عن علي قال : خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في الأرض برهوت ، بئر في حضرموت وخير واد في الأرض وادي مكة والوادي الذي أهبط فيه آدم في الهند منه طيبكم ، وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح الكفار .

وروي عن ابن عباس عن علي رضي الله عنهم قال أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماؤها أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام . ثم ساق ابن منده من طريق ابن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان ثنا أبان بن تغلب قال قال رجل بت فيه - يعني وادي برهوت - فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون يا دومة يا دومة ، قال أبان فحدثنا رجل من أهل الكتاب أن [ ص: 52 ] دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار ، قال سفيان وسألنا الحضرميين فقالوا لا يستطيع أحد يبيت فيه بالليل .

قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح فهذه جملة ما علمته في هذا القول فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجتمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هواه فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيف ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتب وبالله التوفيق .

وأما قول من قال إنها تجتمع في الأرض التي قال الله فيها ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فهذا إن كان قاله تفسيرا للآية فليس هو تفسيرا لها ، وقد اختلف الناس في الأرض المذكورة في الآية الكريمة فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما هي أرض الجنة ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قول آخر أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال المحقق : وهذا القول هو الصحيح ، ونظيره قوله تعالى في سورة النور وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " .

وقالت طائفة من المفسرين المراد بذلك في الآية أرض بيت المقدس . وهي من الأرض التي أورثها عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها . وأما قول سلمان الفارسي رضي الله عنه ومن وافقه إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فالبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن سلمان أراد أنها في أرض الدنيا والآخرة مرسلة هناك حيث شاءت . قال المحقق هذا قول قوي فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما فهي في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعيم ، وأما أرواح الكفار ففي برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال الله تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وأما من قال أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار [ ص: 53 ] في سجين في الأرض السابعة ، فهذا قد قاله جماعة من السلف والخلف ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم عند موته " اللهم الرفيق الأعلى " .

وحاصل هذا أن أرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم وما تؤول إليه .

وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم عليه السلام وأرواح الكفار عن يساره - قال المحقق ابن القيم هذا قول يؤيده الحديث الصحيح وهو حديث الإسراء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث " فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ، قلت لجبريل من هذا ؟ قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار " قال القسطلاني في المواهب : الأسودة بوزن أزمنة هي الأشخاص ، والنسم بالنون والسين المهملتين المفتوحتين جمع نسمة وهي الروح .

قال القاضي عياض جاء أن أرواح الكفار في سجين وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة : يعني فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا ؟ فأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أحيانا فوافق عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل على كون أرواح الكفار في النار في أوقات دون أوقات قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا . واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لهم أبواب السماء كما هو نص القرآن ، والجواب ما أبداه احتمالا أن الجنة كانت من جهة يمين آدم والنار في جهة شماله فكان يكشف له عنهما ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء أن تفتح لها أبواب السماء ولا تلجها ، قال وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار ) فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة إذا نظر عن يمينه استبشر وإذا نظر عن شماله حزن " قال الحافظ ابن حجر : وهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم ولكن سنده ضعيف . انتهى .

وقال المحقق ابن القيم في الروح : لا تدل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهم كذلك على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة وهؤلاء عن يساره في السفل [ ص: 54 ] والسجن . وقال ابن حزم : فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا ذلك عند منقطع العناصر . قال : هذا يدل على أنها عنده تحت السماء حيث تقطع العناصر ، وهي الماء والهواء والتراب والنار .

قال ابن القيم : وهو - يعني ابن حزم - دائما يشنع على من قال لا دليل عليه فأي دليل له على هذا القول من كتاب أو سنة ؟

قال المحقق : إذا كانت أرواح أهل السعادة عن يمين آدم في سماء الدنيا وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش فوق السماء السابعة فكيف تكون عن يمينه وكيف يراها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأجاب عن ذلك من وجوه :

( أحدها ) أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما أن أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفل .

( الثاني ) أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم في سماء الدنيا وإن كان مستقرها فوق ذلك .

( الثالث ) لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال فإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء السادسة والسابعة وكذلك الرفيق الأعلى أرواحهم فوق ذلك وأرواح السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم كما أن أرواح الأشقياء بعضهم أسفل من بعض بحسب منازلهم والله أعلم .

قال الإمام المحقق ابن القيم فإن قيل قد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى يعتقد ؟ فأجاب بأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت ( فمنها ) : أرواح في عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء .

( ومنها ) : أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في مسند الإمام أحمد عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : الجنة ، فلما ولى قال " إلا الدين سارني به جبريل آنفا " .

( ومنهم ) : من يكون محبوسا على باب الجنة كما في حديث [ ص: 55 ] آخر رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة .

( ومنهم ) : من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال الناس هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل نارا في قبره " .

( ومنهم ) : من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية " رواه الإمام أحمد .

وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حيث أبدله الله من يديه بجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء .

( ومنهم ) : من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله تعالى وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها ، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة ، والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما في حديث " ويجعل روحه - يعني المؤمن - مع النسم الطيب " أي الأرواح الطيبة المشاكلة لروحه . فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها تكون معهم هناك .

( ومنها ) : أرواح تكون في تنور الزناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، فليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد من الأرض .

ومن تأمل السنن والآثار في هذا الباب وكان له فضل اعتناء عرف صحة ذلك فكل الآثار الصحيحة حق وصدق يصدق بعضها بعضا لكن الشأن في فهمها وفهم المقصود منها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا ، وتنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم [ ص: 56 ] وألم وعذاب أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير ، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة ، وهناك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق .

( ثم قال المحقق ابن القيم ) : وما أشبه حالها بهذا البدن بحال البدن في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار فلهذه الأنفس أربعة دور كل دار أعظم من التي قبلها :

( الدار الأولى ) بطن أمه وذلك الضيق والحصر والظلمات الثلاث .

( الدار الثانية ) هذه الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت الخير أو الشر وأسباب السعادة والشقاوة فيها .

( الدار الثالثة ) دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الدار الأولى .

( الدار الرابعة ) دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها ، والله تعالى ينقل الروح في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح له غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل إليها ، ولها في كل دار من هذه الدور شأن غير شأن الدار الأخرى ، فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومسعدها ومشقيها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية