الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ما جاء في الغضب

                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغضب

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          3 - باب ما جاء في الغضب

                                                                                                          1680 1630 - ( مالك عن ابن شهاب عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) مرسلا عند الأكثر ، ووصله مطرف عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة ، وأخرجه البخاري والترمذي عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هو جارية بجيم وتحتية ابن قدامة بقاف مضمومة التميمي عم الأحنف بن قيس كما [ ص: 408 ] رواه ابن أبي شيبة وأحمد والحاكم من حديثه ، ووقع مثل سؤاله لأبي الدرداء عند الطبراني وغيره قال : " قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب ولك الجنة " ولسفيان بن عبد الله الثقفي : " قلت : يا نبي الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل ، قال : لا تغضب " رواه الطبراني ، ولعبد الله بن عمر عند أحمد وأبي يعلى ، ولعثمان بن أبي العاصي عند غيرهم ، فالظاهر كما قال الولي العراقي أن السائل عن ذلك تعدد ( فقال : يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ) أنتفع بهن في معيشتي ( ولا تكثر علي فأنسى ) وفي رواية " قل في الإسلام قولا وأقلل لعلي أعقله " ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغضب ) قال ابن عبد البر : أراد والله أعلم علمني ما ينفعني بكلمات قليلة لئلا أنسى إن أكثرت علي ، ولو أراد علمني كلمات من الذكر ما أجابه بهذا الكلام القليل الألفاظ الجامع للمعاني الكثيرة والفوائد الجليلة ، ومن كظم غيظه ورد غضبه أخزى شيطانه وسلمت له مروءته ودينه .

                                                                                                          قال علماؤنا : وإنما نهاه عما علم أنه هواه ، لأن المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أن يترك ما لا يشتهي وخصوصا الغضب ، فإن ملك نفسه عنده كان شديدا .

                                                                                                          وإذا ملكها عند الغضب كان أحرى أن يملكها عن الكبر والحسد وأخواتهما .

                                                                                                          وقال الباجي : جمع له صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد لأن الغضب يفسد كثيرا من الدين والدنيا لما يصدر عنه من قول أو فعل ، ومعنى لا تغضب لا تمض على ما يحملك غضبك عليه وامتنع وكف عنه .

                                                                                                          وأما نفس الغضب فلا يملك الإنسان دفعه وإنما يدفع ما يدعوه إليه .

                                                                                                          وكذا قال ابن حبان أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما ينشأ عنه لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه .

                                                                                                          وقال الخطابي : أي اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه ; لأن نفس الغضب مطبوع في الإنسان لا يمكن إخراجه من جبلته .

                                                                                                          قال الباجي : وإنما أراد منعه من الغضب في معاني دنياه ومعاملاته ، وأما فيما يعود إلى القيام بالحق فقد يجب كالقيام على أهل الباطل والإنكار عليهم بما يجوز وقد يندب وهو الغضب على المخطئ كغضبه صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن ضالة الإبل ، ولما شكي إليه معاذ أنه يطول في الصلاة ، وقال بعضهم : وقد اشتملت هذه الكلمة اللطيفة وهي من بدائع جوامع كلمه التي خص بها صلى الله عليه وسلم على ما لا يحصى بالعد من الحكم واستحباب المصالح والنعم ودرء المفاسد والنقم ، وذلك أن الله خلق الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان ، مهما قصد أو نوزع في غرض ما ؛ اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم ; لأن البشرة تحكي لون ما وراءها ، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة [ ص: 409 ] عليه ، وإن غضب ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، فيصفر اللون حزنا وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ، فيترتب على الغضب تغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال على غير ترتيب واستحالة الخلقة ، حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه ، لكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وتغير الباطن وقبحه - أشد لأنه يولد حقد القلب والحسد وإضمار السوء ومزيد الشماتة وهجر المسلم ومصارمته والإعراض عنه والاستهزاء والسخرية ومنع الحقوق ، بل أول شيء يقبح منه - باطنه ، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه ، هذا كله أثره في الجسد .

                                                                                                          وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحيي منه العاقل ويندم قائله عند سكون غضبه ، ويظهر أثره أيضا في الفعل بالضرب والقتل ، فإن فات بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده ، وربما سقط صريعا ، وربما أغمي عليه ، وربما كسر الآنية وضرب من لا جريمة له فيه ، وللغضب دواء مانع ورافع ، فالمانع ذكر فضل الحلم وما جاء في كظم الغيظ من الفضل ، وما ورد في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وخوف الله ، كما حكي عن بعض الملوك أنه كتب ورقة ، فيها : ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء ، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء ، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ، ثم دفعها إلى وزيره ، فقال : إذا غضبت فادفعها إلي ، فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه ، فينظر فيها فيسكن غضبه ، والرافع للغضب نحو المذكور عن هذا الملك والاستعاذة من الشيطان ويتوضأ كما جاء في حديث " وإن غضب وهو قائم قعد أو هو قاعد اضطجع " كما في حديث . والقصد أن يبعد عن هيئة الوثوب ولا يسرع إلى الانتقام ما أمكن حسبما المادة المبادرة .

                                                                                                          وأقوى الأشياء في دفعه استحضار التوحيد الحقيقي التام ، وأنه لا فاعل في الوجود إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة ، فمن توجه إليه مكروه من جهة غيره فاستحضر أنه تعالى لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه إما على الخالق وهو جرأة تنافي العبودية أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد ، ولذا قال أنس : خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ، ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله ، ولكن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، ولو قدر لكان ما ذاك إلا لكمال معرفته بأنه لا فاعل ولا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضار إلا الله ، وما سواه آلة للفعل كالسيف للضارب ، فالفاعل هو الله وحده ، وله آلات كبرى وصغرى ووسطى ، فالكبرى من له قصد واختيار كالإنسان الضارب بالعصا ، والصغرى ما لا قصد له ولا اختيار كالعصا المضروب بها ، والوسطى ما لا قصد له ولا عقل كالدابة [ ص: 410 ] ترفس ، وبهذا يظهر سر أمر صلى الله عليه وسلم لمن غضب أن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به أمكنه استحضار ما ذكر ، وإن استمر الشيطان متمكنا من الوسوسة لم يمكنه استحضار شيء من ذلك والله المستعان .




                                                                                                          الخدمات العلمية