الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( ومن نهى عما له قد ارتكب فقد أتى مما به يقضى العجب ) )


( ( فلو بدا بنفسه فذادها     عن غيها لكان قد أفادها ) )



( ( ومن ) ) إن أي إنسان أو الذي ( ( نهى ) ) الخلق ( ( عما ) ) أي الشيء الذي ( ( له ) ) أي لذلك الشيء الذي نهى الناس عنه ( ( قد ارتكب ) ) وفعله وخالف قوله عمله من فعل المحظور وترك المأمور ، ( ( فقد ) ) والله ( ( أتى ) ) من قاله وحاله ( ( مما ) ) أي من العمل الذي ( ( به ) ) أي منه ( ( يقضى ) ) بانبنائه لما لم يسم فاعله ( ( العجب ) ) نائب الفاعل ، أي يقضي العقلاء وأهل العلم والحزم من مخالفة قوله لعمله العجب ، أي يحكمون ويقطعون بالعجب وهو إنكار ما يرد عليك ويخفى سببه ، والمراد أن يعظم عليهم ذلك ، ويكبر لديهم أن ينهى عن القبيح ويأتيه ويأمر بالحسن ولا يأتيه ، وقد ورد التحذير عن مثل ذلك كما في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه - أي أمعاؤه ومعنى تندلق أي تخرج - فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ما لك ، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلي كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه . رواه البخاري ومسلم . وفي صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون " . وروى نحوه ابن أبي الدنيا من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا وفيه فقال : الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون . ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي . وروى الطبراني بإسناد حسن عن جندب بن عبد الله الأزدي [ ص: 431 ] - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه " . روى الأصبهاني عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا : " إن الرجل لا يكون مؤمنا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ، ويكون لسانه مع قلبه سواء ، ولا يخالف قوله عمله ، ويأمن جاره بوائقه " .

كان الحسن البصري - رحمه الله - إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها ، فكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئا ، وكان الإمام أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه ولا تذكر عنده ، إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين ، فيؤلم ضربه فيردع ، فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينفع تأديبه بالضرب ؟ والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به ، وهذا بمنزلة من يصف له الطبيب دواء لمرض به مثله ، والطبيب معرض عنه غير ملتفت إليه بل الطبيب أحسن حالا من هذا الآمر المخالف لما أمر به ، لأنه قد يقوم عند الطبيب دواء آخر مقام هذا الدواء ، وقد يرى أن به قوة على ترك التداوي بخلاف الواعظ فإن ما يعظ به طريق النجاة لا يقوم غيرها مقامها فلا بد منها ، ولهذه النفرة قال شعيب - عليه السلام - لقومه : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ، وقال بعض السلف : إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنهي فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له المؤتمرين به ، وإذا نهيت عن شيء فكن أول المنتهين عنه ، ولهذا قال ( ( فلو بدا ) ) الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قبل أمره ونهيه لغيره ( ( بنفسه ) ) متعلق ببدا ( ( فذادها ) ) أي منعها وردها ( ( عن غيها ) ) متعلق بذادها أي عن ضلالها ، والغي الضلال والانهماك في الباطل ، ومنه حديث الإسراء : " لو أخذت الخمر غوت أمتك " . أي ضلت ( ( لكان ) ) ببدايته بإرشاد نفسه وردها عما هي فيه من ارتكاب مهاوي الهوى والضلال والغي والوبال ( ( قد أفادها ) ) النجاة والسلامة والرشد والاستقامة ، فإن الناصح الشفيق والمرشد الرفيق يبدأ في إرشاده من الأمم بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب من ذوي الرحم ولا أهم ولا أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه ، وقد قال من أفصح في المقال ونصح لمن كان له قلب أو ألقى [ ص: 432 ] البال وترك الوبال .


يا أيها الرجل المعلم غيره     هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا     كي يشتفي منه وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى     بالقول منك وينفع التعليم

ولما جلس عبد الواحد بن زيد الواعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته :

يا واعظا قام لاحتساب     يزجر قوما عن الذنوب
تنهى وأنت المريب حقا     هذا من المنكر العجيب
لو كنت أصلحت قبل هذا     عيبك أو تبت من قريب
كان لما قلت يـا حبيبي     موقع صدق من القلوب
تنهى عن العمى والتمادي     وأنت في النهي كالمريب

وقال آخر :

وغير تقي يأمر الناس بالتقى     طبيب يداوي الناس وهو سقيم



وجاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال : أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فقال : إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك ثم تلا : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) ، وقوله تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ، وقوله تعالى : حكاية عن شعيب - عليه السلام - ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية