الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        الحيوان الذي لا يهلكه الماء ضربان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : ما يعيش فيه ، وإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح ، كالسمك بأنواعه ، فهو حلال . ولا حاجة إلى ذبحه كما سبق ، وسواء مات بسبب ظاهر ، كضغطة أو صدمة أو انحسار ماء أو ضرب من الصياد ، أو مات حتف أنفه .

                                                                                                                                                                        وأما ما ليس على صورة السموك المشهورة ، ففيه ثلاثة أوجه . ويقال : ثلاثة أقوال . أصحها : يحل مطلقا ، وهو المنصوص في " الأم " ، وفي رواية المزني واختلاف العراقيين ؛ لأن الأصح أن اسم السمك يقع على جميعها . والثاني : [ ص: 275 ] يحرم . والثالث : ما يؤكل نظيره في البر ، كالبقر والشاء ، فحلال ، وما لا ، كخنزير الماء في كلبه ، فحرام . فعلى هذا ، ما لا نظير له حلال .

                                                                                                                                                                        قلت : وعلى هذا لا يحل ما أشبه الحمار ، وإن كان في البر حمار الوحش المأكول ، صرح به صاحبا " الشامل " و " التهذيب " وغيرهما . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإذا أبحنا الجميع ، فهل تشترط الذكاة ، أم تحل ميتته ؟ وجهان : ويقال : قولان ، أصحهما : تحل ميتته .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : ما يعيش في الماء وفي البر أيضا ، فمنه طير الماء ، كالبط والأوز ونحوهما ، وهي حلال كما سبق ، ولا تحل ميتتها قطعا . وعد الشيخ أبو حامد والإمام ، وصاحب " التهذيب " من هذا الضرب الضفدع والسرطان ، وهما محرمان على المشهور . وذوات السموم حرام قطعا . ويحرم التمساح على الصحيح ، والسلحفاة على الأصح .

                                                                                                                                                                        واعلم أن جماعة استثنوا الضفدع من الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء ، تفريعا على الأصح ، وهو حل الجميع . وكذا استثنوا الحيات ، والعقارب . ومقتضى هذا الاستثناء أنها لا تعيش إلا في الماء . ويمكن أن يكون منها نوع كذا ، ونوع كذا . واستثنى القاضي الطبري ، النسناس على ذلك الوجه أيضا . وامتنع الروياني وغيره من مساعدته .

                                                                                                                                                                        قلت : ساعده الشيخ أبو حامد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الأصل الرابع : المستخبثات من الأصول المعتبرة في الباب ، في التحليل والتحريم ، للاستطابة والاستخباث . ورآه الشافعي رحمه الله تعالى الأصل الأعظم الأعم ، ولذلك افتتح به الباب ، والمعتمد فيه قوله تعالى : ( يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات )

                                                                                                                                                                        [ المائدة : 4 ] .

                                                                                                                                                                        [ ص: 276 ] وليس المراد بالطيب هنا الحلال . ثم قال الأئمة : ويبعد الرجوع في ذلك إلى طبقات الناس ، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه ؛ لأنه يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام ، وذلك يخالف موضوع الشرع ، فرأوا العرب أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخباثهم لأنهم المخاطبون أولا ، وهم جيل لا تغلب عليهم العيافة الناشئة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس . وإنما يرجع من العرب إلى سكان البلاد والقرى ، دون أجلاف البوادي الذين يتناولون ما دب ودرج من غير تمييز . وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة ، دون المحتاجين ، وتعتبر حالة الخصب والرفاهية ، دون الجدب والشدة . وذكر جماعة : أن الاعتبار بعادة العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الخطاب لهم . ويشبه أن يقال : يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه ، فإن استطابته العرب ، أو سمته باسم حيوان حلال فهو حلال . وإن استخبثته ، أو سمته باسم محرم فحرام . فإن استطابته طائفة ، واستخبثته أخرى اتبعنا الأكثرين . فإن استويا ، قال صاحب " الحاوي " وأبو الحسن العبادي : تتبع قريش ؛ لأنهم قطب العرب . فإن اختلفت قريش ولا ترجيح ، أو شكوا فلم يحكموا بشيء ، أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب اعتبرناه بأقرب الحيوان شبها به . والشبه تارة يكون في الصورة ، وتارة في طبع الحيوان من الصيانة والعدوان ، وتارة في طعم اللحم . فإن استوى الشبهان ، أو لم نجد ما يشبهه فوجهان : أصحهما : الحل . قال الإمام : وإليه ميل الشافعي رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                        واعلم أنه إنما يراجع العرب في حيوان لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم ، ولا أمر بقتله ، ولا نهي عنه . فإن وجد شيء من هذه الأصول ، اعتمدناه ولم نراجعهم قطعا . فمن ذلك أن الحشرات كلها مستخبثة ، ما يدرج منها وما يطير . فمنها : ذوات السموم والإبر .

                                                                                                                                                                        ومنها : الوزغ وأنواعها ، كحرباء الظهيرة والعظاء ، وهي ملساء تشبه سام [ ص: 277 ] أبرص ، وهي أحسن منه ، الواحدة عظاة ، وعظاية ، فكل هذا حرام . ويحرم الذر والفأر والذباب والخنفساء والقراد والجعلان وبنات وردان وحمار قبان والديدان . وفي دود الخل والفاكهة وجه . وتحرم اللحكاء ، وهي دويبة تغوص في الرمل إذا رأت إنسانا . ويستثنى من الحشرات اليربوع والضب وكذا أم حبين ؛ فإنها حلال على الأصح . ويستثنى من ذوات الإبر الجراد ، فإنه حلال قطعا ، وكذا القنفذ على الأصح . والصرارة حرام على الأصح كالخنفساء .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية