الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله ]

المثال الثاني والسبعون : إن استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون ، سواء حجر عليه الحاكم ، أو لم يحجر عليه ، هذا مذهب مالك ، واختيار شيخنا ، وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف ، والصحيح هو القول الأول .

وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره ، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده ; لأن حق الغرماء قد تعلق بماله ; ولهذا يحجر عليه الحاكم ، ولولا تعلق حق الغرماء بماله ، لم يسع الحاكم الحجر عليه ، فصار كالمريض مرض الموت ; لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد على الثلث ، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه .

وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء ، والشريعة لا تأتي بمثل هذا ; فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق ، وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله } .

ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها ، فكيف ينفذ تبرع [ من ] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله ؟ ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان ينكر هذا المذهب ويضعفه ، قال : إلى أن بلي بغريم تبرع قبل الحجر عليه ، فقال : والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة ، وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدل على اختياره هذا المذهب ، فإنه قال في باب من رد أمر السفيه والضعيف [ ص: 8 ] وإن لم يكن حجر عليه الإمام : ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه ، فتأمل هذا الاستدلال .

قال عبد الحق : أراد به - والله أعلم - حديث جابر في بيع المدبر ، ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه : وقال مالك : إذا كان لرجل على رجل مال ، وله عبد لا شيء له غيره فأعتقه لم يجز عتقه ، ثم ذكر حديث : { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله } ، وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه ، وقال ابن الجلاب : ولا تجوز هبة المفلس ، ولا عتقه ، ولا صدقته إلا بإذن غرمائه ، وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته ، وهذا القول هو الذي لا يختار غيره ، وعلى هذا فالحيلة لمن تبرع غريمه بهبة أو صدقة أو وقف أو عتق ، وليس في ماله سعة له ولدائنه ; أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع ، ويسأله الحكم ببطلانه ، فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك ، فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن ، فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق ، ولم يبق له غير أمر واحد ، وهو التوصل إلى إقراره بأن ما في يده أعيان أموال الغرماء ، فيمتنع التبرع بعد الإقرار ، فإن قدم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضا ، وليست هذه حيلة على إبطال حق ، ولا تحقيق باطل ، بل على إبطال جور وظلم ; فلا بأس بها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية