الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التفكك الأسري (دعوة للمراجعة)

نخبة من الباحثين

ثالثا: فشل الوالدين في التنشئة الأسرية السليمة لأبنائهم

الأبنـاء هم زينـة الحيـاة الدنـيا وأنـس الوالـدين في حـياتهم. بهم تحلو الأيام، عليهم تعلق الآمال ويضاعف الثـواب. ويتوقف ذلك على التنشئة الاجتماعية السليمة التي تجعلهم عناصر خير ومصدر سعادة. أما إذا لم يحظ الأبناء بالرعاية الوالدية والتوجيه السليم فسوف يصبحون عوامل هدم للأسرة.

وعلى الوالدين أن يدركا عظم المسئولية الملقاة عليهما تجاه أبنائهم. وليس أدل على ذلك من ( قوله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ) [1] .

فالرجل والمرأة مسئولان عن تربية الأبناء وتنشئتهم التنشئة السليمة وإنماء شخصياتهم. والأسرة عموما تمثل أول مجموعة [ ص: 42 ] مرجعية ينتمي إليها الطفل ويقتدي بها وتلبي حاجاته وتعلمه القيم والاتجاهات الاجتماعية المرغوبة. فهي المسئولة عن إشباع حاجاته البيولوجية والفسيولوجية من طعام وشراب وماء، أما إذا فشلت الأسرة في إشباع تلك الحاجات، فلن يتحقق النمو النفسي السوي. فالفقر والعوز يلعبان دورا هاما في اضطرابات الشخصية، قد تنعكس على صورة سلوكات إجرامية كالسرقة وحيازة الأسلحة والتهريب وتعاطي المخدرات وغيرها. وعلى الوالدين تأكيد قيمة العمل ومساعدة أبنائهم في الحصول على عمل شريف يؤمن لهم الحياة الكريمة، مع ضرورة عدم إجبارهم على العمل في سن مبكرة، كالبيع على الأرصفة والعمل في الأماكن الصناعية بما لا يناسب سنهم وبما قد يعرضهم إلى سوء المعاملة والاستغلال؛ لأن ذلك يزيدهم فقرا وجهلا.

والأسرة هي المسئولة عن إشباع الحاجات العاطفية الوجدانية للأبناء كالعطف والشفقة والحب والعدل بين الأبناء والبنات، وتحريرهم من المخاوف والقلق وكل ما من شأنه أن يهدد أمنهم النفسي. فيشعر الأبناء بأنهم محبوبون ومرغوب بهم، وأنهم موضع إعزاز للأسرة. ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان المناخ الأسري يسوده الاستقرار والتماسك. فالأسرة هي القادرة على تنمية هذا الشعور بالعطف والتضحية والمحبة، [ ص: 43 ] وهي التي تتولاه بالنماء، مما يسهم في استقرار الحياة النفسية والاجتماعية للأبناء، فيما يتعذر إشباع هذه الحاجات في المناخ الأسري المضطرب المشحون بالقلق والصراع والخوف.

كما تلعب الأسرة دورا رئيسا في إشباع الحاجة إلى الانتماء الأسري، إذا كانت مترابطة ومنسجمة ومستقرة وحريصة على كيان أفرادها وتسودها المحبة والتفاهم. أما إذا لم تتمكن من إشباع الحاجة إلى الانتماء الأسري لدى الأبناء، تولدت لديهم المشاعر بالغربة عن الذات وعن الأسرة وعن المجتمع بعامة.

وعلى الوالدين مساعدة أبنائهم على تكوين اتجاهات إيجابية نحو ذواتهم ونحو الآخرين بما يحقق التوافق النفسي لهم (بمقابل سوء التوافق مع الذات ومع الآخرين) . هذا فضلا عن ضرورة إشباع الحاجة إلى الاحترام والتقدير وتقبل الأبناء كما هم، ومساعدتهم على احترام الآخرين وعلى تحقيق ذواتهم والاستماع لهم، حتى يتحقق لديهم الشعور بالثقة بالنفس وبالمرغوبية الاجتماعية (بمقابل الشعور بالاضطهاد والنبذ والكراهية والانتقام) .

ويعمل المناخ الأسري الصحي على إشباع الحاجات الفسيولوجية والاجتماعية للأبناء بطريقة متوازنة وسوية دون إفراط أو تفريط، وفي [ ص: 44 ] ضوء أولويات تلك الحاجات، فيما يعمل المناخ الأسري المضطرب والمتصدع على سوء إشباع تلك الحاجات أو عدم إشباعها إلى حد قد يدفع الأبناء نحو السلوكيات الجانحة وغير المقبولة اجتماعيا.

كما ينبغي أن يغرس الوالدان القيم الدينية في نفوس الأبناء كالإيمان بالله وبالقضاء والقدر، وتبصيرهم بالحلال والحرام، وتوجيههم إلى العمل الخير النافع وتعليمهم الشعائر الدينية، وحثهم على مكارم الأخلاق كالصدق والأمانة والخوف من الله وحب الخير للآخرين كما يحبونه لأنفسهم، مصداقا ( لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [2] ، وتنمية الشعور بالمسئولية تجاه الجار ورعايته، وصلة الرحم والرحمة بالضعفاء، فضلا عن تبصير الأبناء بمسئولياتهم إزاء أنفسهم وأهلهم ومجتمعهم.. غير أننا نلمس بعد الأسرة المسلمة المعاصرة عـن الـديـن وعـن الالـتـزام بالإسـلام قـولا وممـارسة، فـالأبنـاء قـد لا يجدون في آبائهم وأمهاتهم القدوة الصالحة ليقتدوا بها، بل قد يجدون فيها أحيانا قدوة سيئة تمارس الرذيلة، وتنشئهم على الانحراف، وتعزز لديهم السلوكات الجانحة. [ ص: 45 ]

وتنعكس التنشئة الاجتماعية السليمة على التوافق النفسي والاجتماعي السوي للأبناء، غير أن فشل الوالدين وعجزهم عن أداء دورهم الرئيس في تنشئة أبنائهم التنشئة السليمة يؤدي إلى سوء التوافق النفسي والاجتماعي لهم، الأمر الذي يفضي إلى حالة من التفكك الأسري والتصدع العائلي.

فقد بينت نتائج الدراسات [3] . أن معظم الجانحين الذين ينحدرون من أسر متصدعة لا يحبون آباءهم ولا يثقون بهم ولا يشعرون بالارتياح معهم، ويتمـنون لو كانوا أبنـاء لأسر أخـرى، كما أنهم يشعرون بعدم الرضا عن أنفسهم وبالفشل والإحباط واليأس والضياع والعصبية. وفيما يتعلق بأسلوب تعامل آبائهم معهم، أشار الجانحون إلى أنه يسوده الإهمال أو القسوة الزائدة والتذبذب في المعاملة وعدم الاكتراث بسلوك أبنائهم.

ويذكر أن حوالي (73%) من هؤلاء الجانحين يقضون يومهم في الشوارع، وأن حوالي (87%) منهم يتأخرون في العودة إلى المنزل ليلا، وأن حوالي (58%) منهم يمضي الليل خارج المنزل ولعدة أيام، دون إبلاغ الوالدين. ولدى مقابلة الوالدين تبين أنهم لا يعرفون [ ص: 46 ] شيـئا عن سلوكات أبنائهم، أو أنهم يعرفون ولا يريدون التشهير.

كما تبين أن هؤلاء الجانحين كانوا قد تعرضوا لأساليب معاملة والدية خاطئة يسودها الحرمان والإهمال والإحباط، وأساسها النبذ والعقاب الصارم وعدم الحب والتناقض في التعامل بين القسوة والحماية الزائدة التي تصل الرقابة فيها إلى حد التقييد الزائد للحرية أو حد الإهمال والسلبية، والانحلال الأخلاقي للوالدين أنفسهم، وضرب النموذج السيئ لأبنائهم، وتضارب سياسة الوالدين في تربية الأبناء وعدم إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية.

وقد تحول وفاة الأب أو غيابه عن البيت لفترة طويلة دون التنشئة السليمة، إذ قد يحصل الأب على عقد عمل خارج البلاد، ولمدة طويلة، أو قد يغيب عن البيت ساعات طويلة يوميا، وتبقى الأم هي المسئولة الأولى والأخيرة عن تربية الأبناء وتلبية احتياجاتهم، أي أنها مطالبة بأداء دور الأم ودور الأب الغائب. وقد تزيد هذه المسئولية على طاقتها، فتفشل في أداء أحد الدورين أو كليهما، وعندها يدرك الوالدان أن نقود الأب الغائب لم تجد في تحصين الأسرة من احتمالات الاضطراب أو الانهيار، ذلك أن الأبناء يحتاجون إلى عطف الأب وتوجيهه وحزمه ورقابته ويقظته بالقدر الذي يحتاجون فيه إلى عطف الأم ومحبتها ودفئها. [ ص: 47 ]

يتضح مما سبق، أن فشل الوالدين في التنشئة الأسرية السليمة لأبنائهم ينعكس سلبا على الصحة النفسية والاجتماعية للأبناء والأسرة بأكملها، فلا شك أن الابن المريض نفسيا واجتماعيا ما هو إلا سفير لأسرته المريضة نفسيا والمتفككة اجتماعيا، أي الأسرة التي يتوجب لها العلاج.

التالي السابق


الخدمات العلمية