الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني (المدينة الخليجية أنموذجًا)

عبد الله بن ناصر السدحان

3- ضعف العلاقات البينية بين أفراد الأسرة وأفراد المجتمع:

نتيجة لتباعد أطراف المدينة إثر توسعها وكثافتها السكانية المستتبعة لظاهرة التوسع، فضلا عن الانشغال الكبير من قبل سكانها بهمومهم الخاصة وانشغالات مجتمع المدينة بشكل عام برز إلى سطح المجتمع المدني خلل في طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة من جانب وبين أفراد الحي الواحد - الجيرة - من جانب آخر، فتشير كثير من البحوث الاجتماعية العربية إلى أن التفاعلات داخل الأسرة العربية طرأ عليها مجموعة من المتغيرات تتمثل في جوانب عدة من أبرزها تناقص الوقت اليومي الذي يقضيه أعضاء الأسرة معا، ويرجع ذلك إلى خروج نسب كبيرة من النساء للعمل خارج المنـزل وللمشاركة في أنشطة اقتصادية واجتماعية متعددة، وانشغال نسب متزايدة من الذكور كذلك، وبخاصة أصحاب الأعمال والمشروعات ومن يعملون أعمالا إضافية لتحقيق مزيد من الدخل لمواجهة صعوبة العيش في المدينة ومتطلباتها، أو الذين يزاولون أنشطة اقتصادية واجتماعية بعيدا عن الأسرة، ويصاحب ذلك تزايد نسب الأبناء المنخرطين في مراحل التعليم المختلفة بما يعنيه ذلك من قضاء نحو ساعات كثيرة في مؤسسات التعليم بعيدا عن الأسرة بالإضافة إلى انشغالهم بواجباتهم المدرسية التي تعزلهم عن أسرهم وقتا كبيرا حتى وهم داخل المنـزل. ومما تحسن الإشارة إليه أن هذه الظاهرة، وهي ضعف العلاقة البينية بين أفراد الأسرة، احتلت المرتبة الأولى في سلم المشكلات الاجتماعية التي تواجهها الأسرة [ ص: 77 ] الخليجية في هذه المرحلة، وذلك وفق نظرة الجهات المختصة بالشأن الاجتماعي في الدول الخليجية، وبرزت هذه النتيجة بعد استبيان شامل حول عدد من أبرز المشكلات التي تعتقد الجهات المعنية بالشـأن الاجتمـاعي أنها تؤثر بشكل كبير في مستقبل الأسرة الخليجية [1] .

كما يمكن رصد حدوث تباعد واضح بين أعضاء الأسرة نتيجة تباينات مواعيد العمل والتعليم وبروز الطموحات الشخصية، مما قلل من فرص التفاعلات اليومية التي كانت تتم داخل الأسرة من خلال الفرائض الشرعية، كالصلاة معا، أو عادات يومية كتناول الطعام أو قضاء وقت الفراغ أو أداء بعض الواجبات الاجتماعية معا، ويزداد الأمر خطورة بحدوث ما يسمى بالتفكك بين الأجيـال وهو جيل الشباب من جـانب وجيل كبار السن - الشيوخ - بما يمتلكه من خبرات حياتية متراكمة من جانب آخر، وبخاصة أن المجتمع الخليـجي يعيش تزايـدا ملحوظا في نسبة كبار السن، إضافة إلى إقباله على تزايد أكبر في أعدادهم في العقود القادمة، كما ذكر في مبحث سابق.

لقد كانت المنـازل التـقليدية في المدينـة الخليجيـة تتسم بالبساطة، كما ذكر سابقا، كما تمتاز بالرحابة المكانية، وهذا ما فقدته [ ص: 78 ] المدينة الخليجية نتيجة للتوسع الرأسي في المدينة، فهذا الشكل من التوسع يمثل مظهرا سلبيا للانفتاح على العالم الخارجي، فقد كان من المؤمل أن تتم المحافظة على التصاميم التقليدية، مع تطويرها بشكل يجعلها تلبي احتياجات السكان، والمكان، وتراعي العادات والتقاليد الاجتماعية المقبولة، التي تمثل قيما أساسية في نسيج المجتمع الخليجي، وهي من الأمور التي كانت تدعم أواصر العلاقات الأسرية الواحدة، سواء كان العيش مشتركا في منـزل واحد كما في الأسر الممتدة، أو حتى في التطور الذي حدث وهو نموذج ابتكر في بعض المدن الخليجية، وهو وجود الأسرة الكبيرة في مجمع سكني واحد، فالوالدان في منـزل مستقل وبجواره منازل الأبناء بعد زواجهم، فهو في حقيقة الأمر استقلال مكاني ولكنه يحقق قربا اجتماعيا بين أفراد الأسرة الواحدة إلى حد كبير، فهو شكل مطور وجديد يجمع بين العائلة الممتدة والعائلة النووية.

ومن جانب آخر يمكن القول: إن من الخصائص السلوكية، والممارسات الحضارية التاريخية للأسر العربية، الاعتماد والتكافل المتبادلان بين الأسر في محيط الجوار وعلى مستوى المجتمعات المحلية، فقد كانت مجالات هذا الاعتماد والتكافل تشمل العمل أو العون، أو الفزعة، وكلها تعبر عن مسميات التعاون في العمل في الدول والمشاركة في الأفراح والأتراح والممارسات والمناسبات الدينية، وكان ذلك كله تعبيرا عن أنماط من التماسك والتضامن الاجتماعي على مستوى الأسرة وعلى مستوى أسر [ ص: 79 ] الجوار، كما كان هذا التفاعل يساهم في إيجاد حلول لبعض المشكلات الاجتماعية والمادية لكثير من الأسر المحتاجة [2] .

غير أن معظم البحوث الاجتماعية، والملاحظات اليومية ترصد بلا عناء انحسار كثافة ومجالات هذه التفاعلات لأسباب متعددة منها ضغوط الحياة المادية والمهنية في المدينة، وانتشار الأنماط الحضرية في البناء الرأسي ذي العمائر الشاهقة متعددة الأدوار الذي يجمع أسرا من جهات شتى، وذات اتجاهات وميول متباينة، أو البناء الأفقي المستقل في شكل قصور وفيلات مستقلة ومتباعدة في المسافات، فضلا عما تسببه متابعة القنوات الفضـائية وما تبثه من برامج وتمثيليات وأفلام علمية على مدار الساعة من إضعاف لصلات اجتماعية مهمة كتبادل الزيارات والمجاملات بين الأسر، بل واغتراب اجتماعي داخل الأسرة الواحدة، وهذا ما تظهره بعض الدراسات الميدانية الخليجية.

ففي دراسة عن الاغتراب الأسري في الأسرة الكويتية، تشير نتائج الدراسة إلى أن علاقات التعاون والتكاتف كانت هي النمط السائد بين العائلات الكويتية وفق ما ترتكز عليه من أنساق اجتماعية قائمة على ضوابط ومعايير مستمدة من الدين الإسلامي والثقافة العربية، وهي مسارات ثرية للتدفق العاطفي، والاندماج الكامل بين أفراد الأسرة، غير أنه بقدوم الحقبة النفطية حدثت تغيرات اجتماعية واقتصادية مصحوبة بارتفاع مستوى [ ص: 80 ] المعيشة وتغير نمط الحياة، وحل التحضر محل البداوة، وهذه التغيرات وإن كانت أتاحت فرصا أفضل للأسرة لكنها في الوقت نفسه جعلت الحياة أكثر تعقيدا.. ومع تنامي ثورة الاستهلاك تنامت الطموحات والتطلعات وأصبح أفراد الأسرة شبه مندمجين مع بدائل متعددة غير ذلك التفاعل الاجتماعي العميق الذي كان سائدا أيام الحياة البسيطة [3] .

إن مما يؤكد ما سبق ذكره هو أن بعض الأنشطة الترويحية التي يمارسها الأفراد في أوقات الفراغ تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية، ويعلق عالم الاجتماع السوفيتي «ريوريكوف» على هذه الظاهرة فيقول: ظهرت عادة جديدة هي استقبال الضيوف والاستمرار في مشاهدة التلفزيون، وكأن الناس لا يأتون لزيارة أصدقائهم وإنما لزيارة تلفزيونهم، فهو يوحدهم شكليا ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقطع الصلات بينهم. وتؤكد الباحثة الكندية «ك. تاجرت» أثر هذه الظاهرة السلبية على تماسك الأسرة بقولهـا: إن التلفزيون لا يقرب بين أعضـاء الأسرة، اللهم إلا ماديا، وهذا التجمع المادي الجسدي لا يكفي للتقارب الاجتماعي [4] . [ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية