الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإنما يملك إقامة الحد بشروط أربعة ; أحدها أن يكون جلدا كحد الزنى ، والشرب ، وحد القذف ، فأما القتل في الردة ، والقطع في السرقة ، فلا يملكها إلا الإمام . وهذا قول أكثر أهل العلم . وفيهما وجه آخر ، أن السيد يملكها . وهو ظاهر مذهب الشافعي ; لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } . وروي أن ابن عمر قطع عبدا سرق . وكذلك عائشة . وعن حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها . ولأن ذلك حد أشبه الجلد . وقال القاضي : كلام أحمد يقتضي أن في قطع السارق روايتين .

                                                                                                                                            ولنا ، أن الأصل تفويض الحد إلى الإمام ; لأنه حق لله تعالى ، فيفوض إلى نائبه ، كما في حق الأحرار ، ولما ذكره [ ص: 52 ] أصحاب أبي حنيفة ، وإنما فوض إلى السيد الجلد خاصة ، لأنه تأديب ، والسيد يملك تأديب عبده وضربه على الذنب ، وهذا من جنسه ، وإنما افترقا في أن هذا مقدر ، والتأديب غير مقدر ، وهذا لا أثر له في منع السيد منه ، بخلاف القطع والقتل ، فإنهما إتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ، ولا يملك السيد هذا من عبده ، ولا شيئا من جنسه ، والخبر الوارد في حد السيد عبده ، إنما جاء في الزنى خاصة ، وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد . وقوله : { أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } .

                                                                                                                                            إنما جاء في سياق الجلد في الزنى ، فإن أول الحديث عن علي قال : { أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة لهم فجرت ، فأرسلني إليها ، فقال : اجلدها الحد . قال : فانطلقت ، فوجدتها لم تجف من دمها ، فرجعت إليه ، فقال : أفرغت ؟ . فقلت : وجدتها لم تجف من دمها . قال : إذا جفت من دمها ، فاجلدها الحد ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } . فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه . وأما فعل حفصة ، فقد أنكره عثمان عليها ، وشق عليه ، وقوله أولى من قولها . وما روي عن ابن عمر ، فلا نعلم ثبوته عنه . الشرط الثاني : أن يختص السيد بالمملوك ، فإن كان مشتركا بين اثنين ، أو كانت الأمة مزوجة ، أو كان المملوك مكاتبا ، أو بعضه حرا ، لم يملك السيد إقامة الحد عليه .

                                                                                                                                            وقال مالك والشافعي : يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة ; لعموم الخبر ، ولأنه مختص بملكها ، وإنما يملك الزوج بعض نفعها ، فأشبهت المستأجرة .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روي عن ابن عمر ، أنه قال : إذا كانت الأمة ذات زوج ، رفعت إلى السلطان ، وإن لم يكن لها زوج ، جلدها سيدها نصف ما على المحصن . ولم نعرف له مخالفا في عصره ، فكان إجماعا . ولأن نفعها مملوك لغيره مطلقا ، أشبهت المشتركة ، ولأن المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه ، لأنه يقيمه في غير ملكه ، فإن الجزء الحر أو المملوك لغيره ، ليس بمملوك له ، وهو يقيم الحد عليه ، وهذا يشبهه ; لأن محل الحد هو محل استمتاع الزوج ، وهو بدنها فلا يملكه ، والخبر مخصوص بالمشترك ، فنقيس عليه ، والمستأجرة إجارتها مؤقتة تنقضي .

                                                                                                                                            ويحتمل أن نقول : لا يملك إقامته عليها في حال إجارتها ; لأنه ربما أفضى إلى تفويت حق المستأجر ، وكذلك الأمة المرهونة ، يخرج فيها وجهان . الشرط الثالث : أن يثبت الحد ببينة أو اعتراف ، فإن ثبت باعتراف ، فللسيد إقامته ، إذا كان يعرف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه ، وإن ثبت ببينة ، اعتبر أن يثبت عند الحاكم ; لأن البينة تحتاج إلى البحث عن العدالة ، ومعرفة شروط سماعها ولفظها ، ولا يقوم بذلك إلا الحاكم . وقال القاضي يعقوب : إن كان السيد يحسن سماع البينة ، ويعرف شروط العدالة ، جاز أن يسمعها ، ويقيم الحد بها ، كما يقيمه بالإقرار . وهذا ظاهر نص الشافعي ; لأنها أحد ما يثبت به الحد ، فأشبهت الإقرار . ولا يقيم السيد الحد بعلمه . وهذا قول مالك ; لأنه لا يقيمه الإمام بعلمه ، فالسيد أولى ، فإن ولاية الإمام للحد أقوى من ولاية السيد ; لكونها متفقا عليها ، وثابتة بالإجماع ، فإذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم ، فهاهنا أولى .

                                                                                                                                            وعن أحمد ، رواية أخرى ، أنه يقيمه بعلمه ; لأنه قد ثبت عنده ، فملك إقامته ، كما لو أقر به ، ويفارق الحاكم ; لأن الحاكم متهم ، ولا يملك محل إقامته ، وهذا بخلافه . الشرط الرابع ، أن يكون السيد بالغا عاقلا عالما بالحدود وكيفية إقامتها ; لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الولايات ، والجاهل بالحد لا يمكنه إقامته على الوجه الشرعي ، فلا يفوض إليه .

                                                                                                                                            وفي الفاسق وجهان ; أحدهما ، لا [ ص: 53 ] يملكه ; لأن هذه ولاية فنافاها الفسق ، كولاية التزويج . والثاني : يملكه ; لأن هذه ولاية استفادها بالملك ، فلم ينافها الفسق كبيع العبد . وإن كان مكاتبا ففيه احتمالان ; أحدهما ، لا يملكه ; لأنه ليس من أهل الولاية . والثاني : يملكه ; لأنه يستفاد بالملك ، فأشبه سائر تصرفاته . وفي المرأة أيضا احتمالان ; أحدهما ، لا تملكه ; لأنها ليست من أهل الولايات . والثاني : تملكه ; لأن فاطمة جلدت أمة لها ، وعائشة قطعت أمة لها سرقت ، وحفصة قتلت أمة لها سحرتها . ولأنها مالكة تامة الملك من أهل التصرفات أشبهت الرجل . وفيه وجه ثالث ، أن الحد يفوض إلى وليها ; لأنه يزوج أمتها ومولاتها ، فملك إقامة الحد على مملوكتها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية